لماذا يتمرّد الفلاسفة؟

ثقافة 2024/05/15
...

أوس حسن

تستمدّ الفلسفة تجددها وثورتها الدائمة من روح التمرّد الذي يدخل في صميم التفكير الفلسفي عند الفيلسوف، فتاريخ الفلسفة هو تاريخ التمرد لو نظرنا إليه من زاوية فردانية وجودية، فما من فيلسوف جاء ليوافق الآراء السائدة أو يهادن المؤسسات الاجتماعية والدينية والثقافية، حتى الفلاسفة الذين ركزوا على الحقائق الموضوعية، ولم يهتموا كثيراً  بالجانب الفردي والعاطفي للإنسان؛ كانت لهم حياتهم الخاصة التي اصطبغت بصبغة تمردية، وأعلت من شأن الحقيقة في مواجهة أخطاء التفكير السائدة في كل عصر من العصور. كل فيلسوف حمل معول النقد والتفكيك تشبعت أعماقه بعقل جبار، وبروح ثورية صاخبة، وكل فيلسوف أرسى دعائم منهجه العلمي حمل راية الاحتجاج ضد الموروثات التي تُسير حياة الناس وتشغل مساحة كبيرة من تفكيرهم وعاداتهم اليومية.
كان سقراط بحق هو نبي المتمردين وشهيد الحقيقة التي ناضل من أجلها، وقد فضل الموت على النفي.
يعود الفضل لسقراط في أنه أنزل الفلسفة التي كانت تتأمل العلل الكونية والظواهر الطبيعية من عليائها إلى أرضها الموعودة لتتأمل حال الإنسان وأحواله. وقد اعتبر أنَّ الفضيلة هي الخير المطلق ولا يمكن تحصيلها إلا بالمعرفة، أما الجهل فهو منبع الشرور عند الإنسان، والأصل في بؤسه وشقائه الدائم، إذن فالجهل هو عبودية مطلقة، لأنَّ الإنسان عند سقراط لا يستطيع أن يكون حراً إلا بالمعرفة ومن خلالها يسعى إلى خيره وفضائله المنشودة.
كان سقراط أول من وضع مصير الإنسان بين يديه وحرره من تبعية الآلهة وجعله حراً في اختيار معتقده وطريقته في الحياة. وقد عالج الخلل في نمط التفكير السائد آنذاك بقوة المحاججة والجدال وطرح الأسئلة، محطماً  أهمَّ المقدسات التي يعتمد عليها رجال السلطة والدين في أثينا، ومن هنا اتهم سقراط بأنه يفسد شباب أثينا، لأنه كان صاحب دعوة دائبة لإعمال العقل وتحريره من الخرافات، الأمر الذي أقلق السلطات في المجتمع الأثيني فقررت مقاضاته والحكم عليه بالموت.
ديوجين وروح التمرّد
 أما ديوجين الكلبي فقد عُدَّ أحد أكثر الشخصيات إثارة في تاريخ الفلسفة، وتحديداً  في ما يخص حياته الشخصية وأفكاره. لقّب ديوجين بفيلسوف البرميل وقد مارس التسول، وعاش حياة قاسية بملء إرادته، إذ إنه اختار الألم والمعاناة على حياة الدعة والترف، لقد ابتعد ديوجين عن وسائل الراحة في عصره وكان يرى أنَّ الإنسان الذي يتدرب على الألم ويعيش وجوداً عارياً  في مواجهة الطبيعة؛ بإمكانه أن يحصل على السعادة من أبسط الأشياء وأصغرها في الحياة، كأشعة الشمس والطعام الزهيد وغيرها من الملذات اللانهائية في الطبيعة، عكس الإنسان الذي يتجنب الألم والمعاناة، ويكون معتمداً في وجوده على الأشياء المكلفة التي شيدتها الحضارة، فلا تستطيع أكبر الرغبات وأكثرها تعقيدا أن توفر له الراحة والسعادة.
لقد تمرّد ديوجين على كل القيم الاجتماعية والآراء السائدة في عصره واعتبرها أصل البؤس والعبودية عند الأثينيين، لذلك كانت حياته حكيمة ومطابقة تماماً لأفكاره التي استخدمها للعبث والسخرية من أعراف المجتمع الأثيني، والتي حولت الفرد إلى حيوان مطيع.
كان تمرد ديوجين تحركه قيمة إنسانية عليا، تتمثل في أنَّ السعادة لا تأتي إلا من خلال الحرية والاكتفاء الذاتي، ولا يحصل هذا إلا عن طريق التحرر من الارتباطات والرغبات الوهمية في العالم الخارجي، فأغلب ما يقوم به البشر غير مجدٍ ولا معنى له، ما دام لا يتوافق مع الطبيعة، ولا يتوجه إلى الحياة الحقيقية.
لا تقل فلسفة ديوجين في التمرد، عن فلسفات التمرد والاحتجاج في عصرنا الحديث، ولا يقل نمط حياته الوجودي، عن أهم الأفكار التأسيسية في الوجودية الحديثة، فديوجين كان يؤمن قبل كل شيء بفردانيته واختلافه خارج ثقافة القطيع، حتى حياته لم تكن تستند إلى أي قاعدة عقلانية أو منطقية.
فقد كان يمشي إلى الخلف عكس الناس، وكان يدخل المسرح في نهاية العرض بعد أن يغادر الجميع، وقد شوهد وهو يدحرج نفسه في الرمال الحارقة في يوم صيفي حار، أو يمشي عارياً في الثلج.
وما ينقل عن ديوجين الكلبي وحياته المتمردة والقريبة إلى الجنون الذي يخلخل كل صورة مثالية للإنسان عن نفسه، أنَّ رجلاً ذات يوم أدخله بيتاً فاخر الأثاث وقال له: إياك أن تبصق على الأرض، وكان ديوجين قد رغب في البصاق، فبصق في وجه الرجل، زاعقاً به إنه المكان القذر الوحيد الذي عثر عليه ورآه صالحاً لذلك.
واجه ديوجين أفلاطون والإسكندر وكان يمارس العادة السرية علناً في الساحات العامة، متمنياً لو كان في وسع الإنسان أن يدلك بطنه بالطريقة نفسها كي يكف عن الإحساس بالجوع.
لقد جذبت تصرفاته الغريبة كل من حوله، ولقبه أفلاطون بسقراط المجنون، لم يهتم ديوجين بآراء الناس بشأن شكله ومظهره، ولا بالتوصيفات والألقاب التي وصفوه بها، لكنه حتماً كان يعبر عن روح التمرد في عصره، وعن حركة احتجاج كبيرة غيرت مسار الفلسفة بعده.
يقول الفيلسوف والكاتب الروماني إميل سيوران: إنَّ “الإنسان بالنسبة لديوجين كان مادة تأمله واحتقاره الوحيدة. لقد تدرب على تجريده من ثيابه دون أن يخضع لأي تزييف أخلاقي أو ميتافيزيقي”.
إذا جاز لنا أن نعبّر أنَّ الفلسفة ذاتية قبل كل شيء فهي سقراطية المنشأ، وإن كانت متمردة فهي عبارة عن خلق دائم ومتجدد للمشاكسة الديوجينية في كل زمان ومكان.
التمرد في الفلسفة الوجودية
 ركّزت الفلسفة الوجودية على كينونة الفرد المنفصل عن المجموع، وأولت اهتماماً كبيراً لعاطفته المتمثلة بالقلق واليأس والألم، وقد اعتبر الوجوديون أنَّ هذه الانفعالات أصيلة بالنسبة للإنسان الذي يحيا وجوداً أصيلاً.
يتمرّد الوجودي على نظام الحياة القائم على التفاهة والابتذال وعلى جميع الأحكام والمعايير التي يخضع لها مجتمع القطيع، وفي هذا التمرد الصامت ألم واغتراب، لأنَّ الذات تنكفئ على ذاتها في العزلة وتفقد محيطها الاجتماعي بحثاً عن حقيقة إنسانية أكثر رسوخاً  وأصالة.
 لقد اتخذت الوجودية من التمرد منهجاً يسير بالإنسان إلى غايته القصوى وهي الحرية بوصفها القيمة الأسمى للفرد الذي يكشف بواسطتها عن جميع المعاني المستترة في الحياة.
تستمد الحرية توهجها من شعلة التمرد، والإنسان المتمرد لا بد أن يكون على وعي تام بالحرية ومسؤولاً عنها.
لا ينبثق التمرد من الانغلاق الذاتي، ولا من العقل المستبعد للأهواء والارتباطات الخارجية، وإنما من الذات المتعالية عن آلام الوجود، بحيث تبلغ الحرية الباطنية أقصى قيمة ممكنة، وتكون مشروطة بالعمل والتجربة.
إنَّ الحقيقة قبل كل شيء هي ذاتية، والإنسان الذي يستشعر في أعماقه أنَّ هناك حقيقة ما ترسخ وجوده الأصيل، عادة ما يضع المسلمات جميعها تحت مجهر النقد والسؤال.
فالمتمرد يهدم ليبني، لكنه لا يتخلى عن الأنقاض التي قام عليها بنيانه الجديد.
والمتمرد يرفض الأسس الهشة التي تقوم عليها الحياة، ويرفض أن يكون مجرد رقم في جماعة، لذلك فعادة ما تدفعه تجربة التمرد إلى الخلق والإبداع، وإلى الشعور بالأخوة الإنسانية والمصير المشترك لبني جنسه.

لماذا نتمرد ومتى يتحول التمرد
 إلى قيمة خالقة؟
يرى مارتن هايدغر أنَّ وجود الإنسان في صميم ذاته يتسم بالانعدام، وهذا الانعدام هو نقص في الوجود، وعلى أساس هذا الانعدام لا بد للإنسان أن يتحمل مسؤولية وجوده.
إذا كان النقص في الوجود والحرمان هما النواة التي تشعل شرارة التمرد في الوعي الإنساني، فإنَّ التمرد في الوقت نفسه هو حركة علو وتجاوز لطبيعة الحياة اللامعقولة، وصرخة احتجاج تحاول أن تجمع التناقضات في وحدة عقلية شاملة.
يرى المتمرد أنَّ ما يقوم به هو استحقاق سلبته الحياة منه، فكل ما يقوم به المتمرد يتضمن معنى وقيمة ضمنية في مشروع وجوده، حتى وإن كان مدفوعاً بإدانة لهذا العالم وبرغبة تتعارض مع المنطق الإنساني وقواعد الأخلاق البشرية.
عادة ما يتم توصيف الإنسان المتمرد بأنه شخص لاعقلاني، ومنساق بشدة لرغباته اللاشعورية ومزاجه المتقلب، لكنَّ المتمرد هو من أكثر الأشخاص الذين تؤرقهم الرغبة في الوضوح، والبحث عن الحقائق العقلانية.
لكنّ التمرد نفسه يبقى محاطاً بقوى التدمير، أو يتحول إلى شر محض، إن لم تدفعه الصيرورة إلى منطقة التأمل واليقظة الفكرية، ليكون خالقاً أو يبني على أنقاض الخراب قيماً ومعاني جديدة.
هل النقص في الإنسان، أو في هذا العالم؟. ومن أين يأتي حكمنا الأخلاقي على ما يسمى بالخير أو الشر؟. النقص موجود دائماً، إنه أزلي وأبدي في هذا الوجود، لكنه لا يوجد في الإنسان وحده ولا في العالم، وإنما في التحامهما بواسطة الوعي البشري.
أما حياتنا فهي تجري بطريقة نتحاشى فيها الألم والضرر قدر الإمكان، مع محاولاتنا الحثيثة للحصول على الخير واللذة، من هنا تصبح أحكامنا نسبية ومعاييرنا الأخلاقية نسبية في ما يتعلق بمفهومي الخير والشر، وعليه يمكننا أن نربط التمرد بالدوافع الأولية للحياة، بالبنى اللامرئية التي تحرك عالمنا المادي الملموس، وعوالمنا الداخلية العميقة.
واستناداً لما سبق يمكننا أن نصنف التمرد إلى نوعين مع تسليط الضوء على أسبابهما ونتائجهما الأخلاقية والفكرية
أولاً: ينشأ التمرد عندما لا يرضى الإنسان بقبول المعاناة تحت أي شكل من الأشكال، وعندما يرى أنَّ الحياة لا يمكنها أن تستند إلى أي قاعدة أو قيمة مقدسة، فيحصل عنده تخلخل بالمعيار الأخلاقي، وعادة ما يستند إلى الشر بوصفه النقيض الأخلاقي الذي يخلخل قواعد المجتمع وأعرافه السائدة، والشر كامن في أعماق كل إنسان، وليس جنوحاً  أو صفة مكتسبة إلا في بعض الحالات، لكن عادة ما يحفز التمرد نوازع الشر ويقويها، إذ يصبح الشر هنا قيمة تعلو على الطبيعة وعلى الأخلاق بالتدمير، وهو علو يتساوى مع السقوط في عدميته، يمكننا أن نسمي هذا التمرد بالتمرد العدمي، وهو واضح في سيرة الشر المتمثلة في الأدب والروايات التي تمجد الشر وتتغنى بالجريمة والدمار، وعادة ما يتجه التمرد الميتافيزيقي إلى الشر عندما يتعامل مع الإله- أو أياً كانت التسمية- بوصفه كائناً  بشرياً  تنطبق عليه الأحكام العقلية والأخلاقية.
ثانياً: ينشأ التمرد عند التأمل العميق في المأساة الإنسانية، وما يستند إليه العالم والبشر من أوهام وخرافات وأخطاء في التفكير، ويتعاملون معها كحقائق جوهرية، وتشمل هذه الأوهام الأخطاء القيم والمعتقدات والأديان والأساطير، والكثير من الآراء السائدة والأحكام المتغلغلة في المجتمعات وفي العقل الجمعي. بل وتشمل أيضاً الكثير من التفسيرات العلمية والفيزيائية والظواهر الطبيعية. إنَّ الأنبياء والقديسين والفلاسفة والعلماء انبثقت لديهم نزعة التمرد من طابعهم التأملي للعالم والإنسان، فلامست أفكارهم وتأملاتهم المناطق المظلمة للحدس الباعث على الخلق والإبداع، فارتضوا الألم والمعاناة على أن يبقى المعنى خالداً. وهكذا يصبح التمرد في كل حين خلقاً متجدداً.
 لا يطفئ المتمرد نور العالم بظلامه، وإنما يضيء بليله نور العالم الجريح.