ما الذي يفضّله القارئ العراقي: الكتاب أم الطعام؟
صفاء ذياب
منذ تأسيس شارع المتنبي المتفرّع من شارع الرشيد في بغداد أواخر العصر العبّاسي، كان له ميزة خاصة، لاسيّمت أنّه كان امتداداً لسوق الوراقين، وكان يطلق عليه آنذاك “درب زاخا”، وهي تسمية آرامية، لأنّه كان مزدهراً بالمؤسسات الثقافية والمدارس الدينية والعلمية، ومن أشهر هذه المدارس مدرسة الأمير سعادة الرسائلي.
غير أنَّ سقوط بغداد على يد هولاكو في العام 656م-1258هـ ومرورها بما سُمّي بعدها بالفترة المظلمة أو مرحلة الانتكاسة الحضارية خبا نجم هذا الشارع وخفّ بريقه الثقافي إلى أواسط العهد العثماني حيث تمَّ بناء “القشلة” من قبل الإدارة العثمانية لتكون سرايا للحكومة. واستكمالاً لهذا الإنشاء كان لا بدّ من منفذ لخروج العربات الداخلة إليها من جهة ساحة الميدان. ليطلق عليه فيما بعد بشارع “الأكمك خانة” أي المخبز العسكري باللغة التركية، وبعد ذلك وفي عهد الدولة العراقية الحديثة وتحديداً العام 1932 إبان فترة حكم الملك فيصل الأول تمّ إطلاق اسم المتنبي على هذا الشارع تخليداً للشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي.
ربّما لم يعنَ شارع المتنبي بالكتب منذ تأسيسه، لكنه كان جزءاً من مباني الحكومة والمطابع الحكومية حينها، غير أن ثمانينيات القرن الماضي كان لها رأي آخر، إذ بدأت المكتبات تنتشر في هذا الشارع، على الرغم من وجود مكتبات قبل ذلك الوقت، لكنها لم تكن كثيرة إلى الحد الذي يمكن إطلاق شارع ثقافي عليه.
وفي التسعينيات، وهي فترة الحصار الاقتصادي على العراق، نشط شارع المتنبي ببيع الكتب بشكل واضح، إلى الدرجة التي شجّعت الكثير من المثقفين والأدباء على افتراش الأرضيات والأرصفة لبيع مكتباتهم الشخصية، ومنذ تلك اللحظة تشكّلت هوية مختلفة لهذا الشارع، حتى عُدّت بسطات الكتب هي السمة الرئيسة له، وليس المكتبات كمحال تجارية لبيع الكتب.
غير أنَّ تعرّض هذا الشارع للهجوم الإرهابي العام 2007 وراح ضحيته العشرات من الضحايا من باعة الكتب والمتبضعين وتعرضت خلاله مقهى الشابندر وعدد من المكتبات للدمار، جعلت الأنظار الدولية تتجه إليه بشكل لافت، فقررت الحكومة العراقية إعادة إعماره عام 2008 برغم الظروف الأمنية الصعبة في بغداد آنذاك وتمَّ خلال إعمار الشارع إضافة تمثال الشاعر المتنبي من تصميم الفنان والنحات العراقي سعد الربيعي.
وفي العام 2021 أعيد تأهيل الشارع ليكون متنفّساً جديداً للثقافة العراقية، وتم افتتاحه في 25 كانون الأول 2021. غير أن هذا الإعمار كان سبب نقمة على هذا الشارع الثقافي حسب ما يرى المثقفون، فقد تحوّل إلى شارع مليء بالطعام والعصائر بمختلف أنواعها، حتى أن الأماكن التي كان مخصّصة لبسطات الكتب تحوّلت لكعام لبيع الدولمة والأكل العراقي الشهير. الأمر الذي جعل أن الحصول على أي متر في شارع المتنبي لعرض الكتب مستحيلاً، فقد تضاعفت أسعار الإيجارات إلى مبالغ خيالية، فضلاً عن سطوح المباني التي تحوّلت هي الأخرى إلى كافيهات، بدل أن كانت مخازن للكتب.
الأمر لا يختلف مع الشوارع الثقافية التي افتتحت في المدن العراقية الأخرى تقليداً لشارع المتنبي، كما في شارع الفراهيدي في البصرة، وشارع دجلة الثقافي في الكوت والشارع في الناصرية، وغيرها الكثير من المدن العراقية.
فكيف يمكننا قراءة الأسباب التي حوّلت الشوارع الثقافية في العراق؛ إلى مطاعم متجولة، بدلاً من تخصّصها الثقافي البحت؟
مومياءات ثقافية
يكشف القاص والروائي عزيز الشعباني أنَّ ما حدث كان جرحاً ثقافياً كبيراً، بدأ الشارع يفقد هويته الثقافية، يفقد بصمته ووظيفته الأساس، تتحمّل أمانة بغداد ما آل إليه الشارع، من انحسار بيع الكتب وتجارتها، لصالح محال الأطعمة والمحابس والسبح، إذ قامت أمانة بغداد بتأجير كثير من المحال إلى مستثمرين خارج نطاق الكتب، في عملية لا تخلو من فساد إداري.
مضيفاً: أتمنى أن يتخصّص شارع المتنبي بالكتب فقط، تجارتها وطباعتها وتبادلها ونشرها، كي نمنح فضاءً لأصحاب الدور، يخصّبون به تجارتهم اللامربحة، أنا ضدَّ أن ينافسهم حتَّى أصحاب المهن المجاورة، كتجليد الكتب وعمل الأختام وصناعة الحقائب، أنا ضدَّ حتَّى تجمعات الكتّاب والفنانين والموهومين في فضاءات الشارع، لأنَّه إيّاك أن تتصوّر أنَّهم يناقشون أحوال الرواية والشعر والفلسفة، لا أبداً، إنَّهم فقط يلتقون ليغذّوا نار حقدهم.
أيّ مغارة تمرّ بها ينعقد داخلها مهرجان شعري أو سردي، أو موسيقي، لماذا يجتمع هؤلاء باستمرار؟
حتَّى حينما أجلس على حافة النهر كي أنزوي مع نفسي، أجدهم يتحاورون بمؤتمر حول لا شيء.
من جانب آخر صار الشارع مرفأ سياحياً لعوائل لا علاقة لها بالقراءة والكتب، لكنّهم يجدون المتعة حين يتجوّلون وسط الكتب والكتّاب، مثل سائح يستمتع قرب مومياءات أثرية، أعتقد أنَّ وجود الكتّاب قربهم يبعث في نفوس السائحين راحة نفسية، مثلما يفعل تمثال الرصافي أو حجر المتنبي.
أخاف أن الشارع سيتحول إلى ملهى ليلي بمرور الوقت.
هويّة متخيّلة
يشير الناقد أمجد نجم الزيدي إلى أنَّ الكثير من الشوارع الثقافية نشأت في المحافظات العراقية؛ تقليداً لشارع المتنبي العريق في بغداد، ولكنَّها، على الرغم من حسن نيّة منشئيها، لم تؤسّس لفعل ثقافي حقيقي، بل كانت نوعاً من البحث عن ذات جمعية متخيّلة، صودرت لأزمان طويلة، وعاشت في المخيلة الجمعية للشعب العراقي، أي أنَّها لم تكن ظاهرة فاعلة ومؤثّرة في جانبها الثقافي، إلَّا كمظهر لذات نوستولوجية ربَّما، أو باحثة عن تصوّر لهويّة حضارية متخيّلة، تعويضاً عن تلك الذات المفقودة، أو المقهورة، ممَّا جعل من هذه الشوارع حاضنات مفرّغة من محتواها الثقافي، وأصبحت نوادي اجتماعية، أو مقاهي وقتية، هروباً من واقع متشظٍّ وخيبة أمل كبيرة بحلم التغيير المتخيّل بما بعد سقوط الديكتاتورية، صورة نرجسية للعراق المثقف، إذ إنَّ إقبال الناس، غير المعنيين بالثقافة أصلاً، على هذه الشوارع ما هو إلَّا محاولة لعيش ذلك الحلم، والاكتفاء بالنشوة التي توفّرها تلك الأجواء الثقافية، كزيارة متحف يضم أحلامهم المسلوبة، ممَّا أدّى بالتدريج إلى أن تغزوها أمور أخرى بعيدة عن غرضها الرئيس، كبيع الأطعمة والمشروبات وغيرها، حتَّى في شارع المتنبي الذي يمثّل واجهة ثقافية لمدينة بغداد والعراق، لأنَّ ما يحرّك وجدان أغلب المتجمهرين في هذه الأمكنة هو دلالة المكان، أكثر من وظيفته الفعلية، كنافذة تمثّل حراكاً ثقافياً فاعلاً ومنتجاً.
نقمة الترميم
وبحسب الروائي أحمد الدهر، فقد استبشر أصحاب دور النشر والمكتبات في شارع المتنبي بالخصوص، والشوارع الثقافية المنتشرة في بعض المحافظات العراقية بالعموم، كشارع الفراهيدي في البصرة، بالترميم والتأهيل الذي أجرته إحدى المنظّمات الدولية. فقد كانت هذه الشوارع تفتقر إلى أبسط أشكال الخدمات، حيث كانت ذات أرضية وجدران متهالكة وأسلاك كهربائية عشوائية وغيرها من الأمور التي كانت تشوّه شكل شارع المتنبي.
وقد تمَّ الترميم، وأصبح لشارع المتنبي روّاد ليليون بعد أن كان يُغلق ظهراً. فقد انتشرت الإنارة، وصُبغت الجدران، وعلّقت الجماليات الخشبية وغيرها. لكنَّ الذي حدث، إذا أخذنا شارع المتنبي مثالاً لحديثنا، نلاحظ في الآونة الأخيرة بدأ الشارع يفقد هويّته. فبعدما كان قبلة للباحثين والأدباء والقرّاء، أصبح يملؤه الطعام والمطاعم المتنقّلة وأصوات نشاز تملأ المكان. فقد تراجعت بسطات الكتب لتحلَّ محلّها بسطات الدولمة والأكلات الأخرى.
من عادة رواد المتنبي أن يقصدوا الشارع هروباً من صخب الحياة بحثاً عن الهدوء، والجلوس في المقاهي، والأصوات الهادئة، والجلوس مع من على شاكلتهم في الهوايات، ومن يبادلهم الأفكار. لكنَّ نقمة الترميم جلبت معها من لم يضع يده على كتاب يوماً، ومن يظنُّ أنَّ المتنبي قائداً عسكرياً قديماً، وأصبح مادة للفاشينيستات والبلوغرز اللواتي بضاعتهن أجسادهن.
الصخب بدأ يملأ المكان؛ بائع العصير يصيح، أصحاب المأكولات يصيحون، رافقه تغيير من الموسيقى الهادئة إلى أغانٍ رائجة هابطة تعجُّ بالمكان. هو أشبه بفتح محل لبيع اليشماغ في الشانزليزيه في باريس. فلكلِّ شيء مكانه، فلا يصحُّ فتح محل لبيع الآلات الموسيقية في شارع صناعية السيارات. مثلما لا يصح بيع أقلام لأناس لا يعرفون الكتابة؛ فهذا سيحرجهم أولاً لعدم معرفتهم استخدامها، وثانياً سيحوّلهم من أداة كتابة إلى أداة قتال يضرّون بها المارّة.
الترميم الذي كان يراه رواد المتنبي وأصحاب المكتبات ودور النشر نعمة، غدا نقمة. أخشى ما أخشاه أنَّه حين تُسأل في قادم الأيام عن بائع أثاث أو سيراميك، تكون الإجابة في شارع المتنبي.
تنوّع منفلت
ويرى الكاتب والصحافي جبار بجاي أنّه في واحدة من بوادر الحراك الثقافي البلاد ظهرت مؤخراً العديد من الأماكن الثقافية في فضاءات عامة مفتوحة سيّما ما يعرف بشارع الثقافة الفلاني، كشارع الفراهيدي في البصرة والثقافة في الناصرية وشارع دجلة الثقافي في الكوت، فضلاً عن شارع المتنبي، وغيرها من المسميات الأخرى التي شهدت حراكاً ثقافياً منوّعاً عند البداية، بل سجّل بعض تلك الشوارع حالة مميّزة في التنوع الثقافي الجامع، ولأنَّها في فضاءات مفتوحة لم يختصر الحضور فيها على النخب الثقافية المختصّة أو المهتمين بالثقافة فحسب، بل عامة الناس ومن فئات وشرائح اجتماعي مختلفة.
وأضاف أنَّ اللافت في الموضوع أنَّ تلك الشوارع سرعات ما تحوّلت إلى مطاعم وبعضها حتَّى إلى كافيهات فأخذت العناوين الثقافية تتراجع يوماً بعد آخر، والسبب يعود لكثر غير المهتمين بالثقافية الذين يبحثون عن إشباع بطونهم أكثر من إشباع أفكارهم بالقراءة، وساعد في ذلك بشكل مباشر غياب المنع والمحاسبة على اعتبار أنَّ تلك الشوارع وغيرها أماكن عامة، وبالتالي لا يحقُّ لفئة كالمثقفين أو المهتمين بالثقافة منع وجود المطاعم وغيرها.
ودعا بجاي الجهات المعنية إلى مراجعة تلك الظاهرة ومنعها بالمطلق، أي منع تواجد المطاعم وغيرها من الأشياء التي ظهرت، وهي بعيدة عن النشاط الثقافي، كي نحافظ على هوية تلك الشوارع وأبرزها شارع المتنبي العلامة الثقافية الدالّة في بغداد والذي نخشى عليه من التراجع الثقافي المهم وتحوّله إلى مكان آخر.
حماية قانونية
ويؤكّد الشاعر عصام كاظم جري أنَّ المنظومة الثقافية وبمجمل القول تشهدُ أزمات ومتاعب انفلات عِنان التمسّك بالفعل الثقافيّ الحصيف، وغياب التخصّص المُحكم والسّديد الصائب، الذي ينقلُ البوصلةَ على وجه الدّقة والحكمةِ والمعرفةِ.
والاستفاضةُ بعض الشيءِ في هذا السؤال قد تحرجُ الكاتبَ مستقبلاً! بعض أدباء الصدفة يحاولون التعافي من هذا الأمر الطارئ في نظرهم، ولكن في الحقيقة هم المسؤولون عن تَشْويه معظم الحراك الثقافي، هؤلاء الأدباء مسؤولون عن الحطّ من هيبة ومنزلة كلّ ما هو رمز ثقافيّ ومعرفيّ وقيمة جمالية عليا.
فالدعوات الخاصة إلى المهرجانات الأدبيّة أصبحت ظاهرة اجتماعيّة “لابن عمتي ولابن عشيرتي... إلخ”، فضلاً عن المحتوى الهابط لأنشطة فروع الاتحادات التي صادرت مفهوم تجديد التحوّلات الثقافية واكتشاف المواهب وغيرها، ولهاث بعض أمناء الفروع وراء شيوخ الأحزاب والعشائر والمليشيات بغية المنافع المالية والوظيفية باسم الثقافة والأدب، ولا ننسى المجاملات في زجّ أصدقائهم من خارج الوسط الأدبيّ لطباعة كتبهم الفقيرة معرفياً، والتسويق لتجارة دور النشر الهابطة في كل شيء، إن هذا الخراب وغيره جرَّ الشوارع الثقافية في العراق لتكون مطاعم متجوّلة، بدلاً من تخصّصها الثقافي الدقيق.
ويضيف: شيء رائع أن تحظى الثقافة بمختلف أنساقها باهتمام عالٍ من المجتمع عامة، ولكن متى يرى الأديب؛ الفاعل والعضوي، هذه الإشراقة؟ في كلِّ مرّة نقول: لقد آن الأوان للاهتمام بالثقافة العراقية بوصفها إنتاجاً ومنجزاً وصناعة وموقفاً. ولكن أين الفعل من القول؟
المثقف ليس بحاجة إلى تشريع قانون لحماية الآداب والثقافة والفنون من التدخّلات الاجتماعية والوعود، وإنَّما بحاجة إلى آلية قانونيّة لحمايته من المتطفّلين على الصفة.