منظومة المنع والإبعاد والمراقبة الخارجيَّة للخطاب
د. حيدر عبد السادة جودة
يشير الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) إلى وجود مجموعة من الإجراءات الداخلية والخارجية في مراقبة الخطاب، وهي تشكّل بعمل جوهري في مراقبة الخطاب، وتحويله من أداة فاعلة إلى أداة مُنفعله، عن طريق تجريده من الرغبة والسلطة، وما نودُّ أن نشير له في هذا المقال، هو النظر في الممارسات الخارجية في مراقبة الخطاب، وأول تلك الإجراءات هو المنع، وليس المنع بالنسبة لفوكو سوى أكثر إجراءات الإقصاء جلاء وبديهية، لكنه ليس بالقطع الإجراء الوحيد.
في كتابه نظام الخطاب، يقول فوكو: إننا نعرف جيداً أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل ظرف، ونعرف أخيراً ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان، فهناك الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه، وهناك الطقوس الخاصة بكل ظرف، وحق الامتياز والخصوصية الممنوح للذات المتحدثة. إن من أكثر المناطق التي أحكم السياج حولها، وتتضاعف حولها الخانات السوداء في أيامنا هذه هي مناطق الجنس والسياسة، وكأن الخطاب، بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي يجرد فيه الجنس من سلاحه، وتكتسب فيه السياسة طابعاً سلمياً، هو أحد المواقع التي تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. وبحسبه، يعتبر القرن السابع عشر، بداية لعصر القمع الخاص بمجتمعات تسمى بورجوازية، فمنذ هذه اللحظة، ربما أصبحت تسمية كلمة جنس أكثر صعوبة وأبهظ كلفة، كل شيء يحدث كما لو كان من الضروري إنزاله إلى مستوى اللغة، من أجل مراقبة التداول الحر به عبر الخطاب، وطرده من الأشياء المقولة وإطفاء الكلمات التي تجعله حاضراً حضوراً محسوساً، ويؤكد فوكو أن حياء العصر حصل على منع الكلام عن الجنس، حتى من دون أن يذكر اسمه، وذلك عن طريق أصناف المنع التي تتساند فيما بينها، أنماط من الخرس، تفرض الصمت نتيجة الاستمرار في ممارسة السكوت.
ويبدو أن الخطاب في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة، وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب ليس فقط هو ما يظهر أو يخفي الرغبة، لكنه أيضاً هو موضوع الرغبة، وما دام الخطاب ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.
ويفرق فوكو في كتابه (نظام الخطاب) بين قول الرغبة وقول المؤسسة، فتقول الرغبة: لم أكن أريد الدخول شخصياً في هذا المستوى المغامر للخطاب؛ لم أكن أريد أن تكون لي به علاقة بخصوص ما له من عناصر الحسم والقطع، كنت أود أن يلتف حولي كشفافية هادئة، وعميقة، ومفتوحة بلا نهاية، هناك حيث يستجيب الآخرون لانتظاري، ومن حيث ترتفع الحقائق الواحدة تلو الأخرى؛ لم يكن أمامي سوى أن أترك نفسي محمولة فيه كحطام سعيد. تجيب المؤسسة: لا تخش أن تبدأ؛ فكلنا هنا لنريك أن الخطاب خاضع لقوانين؛ وأننا نسهر، منذ زمن طويل، على ظهوره؛ وأن مكاناً قد أعد له، مكاناً يشرفه لكنه يجرده من سلاحه، وأنه إذا حصل أن كانت له بعض السلطة فإنه يستمدها منا ومنا فقط.
إلى جانب المنع، فهناك مبدأ آخر للإبعاد، ومكمنه التعارض بين العقل والجنون، فلقد انتفى في بداية القرون الوسطى إمكان الحوار مع المجنون أو الإنصات إلى خطابه، باعتباره إما خطاباً فارغاً لا دلالة له، أو خطاباً خارقاً يحيل رمزياً إلى حقيقة عقلية تتجاوز قدرات الخطاب العادي، وفي الحالتين، لا وجود لكلام الجنون بل هو الموقع الذي تمارس فيه عملية القسمة.
ولكن، أين سيقع الجنون إن لم يكن داخل العقل ذاته، باعتباره شكلاً أو مصدراً من مصادره، وإن التشابه بالتأكيد يميز بين أشكال العقل وأشكال الجنون، إنه تشابه مقلق أيضاً، فكيف يمكن التمييز داخل فعل بالغ الحكمة قام به مجنون، وبين أبشع أشكال الجنون الصادرة عن رجل ينظر إليه عادة على أنه حكيم وسوي؟. وينقل لنا هاشم صالح تساؤلاً لفوكو عن العلاقة بين العقل والجنون، فيقول: هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل، أو إن الجنون من جنس العقل والعقل من جنس الجنون؟. ويؤكد فوكو في كتابه (تاريخ الجنون) على أن الحكمة والجنون متجاوران.
وقد اهتم فوكو في مجمل كتبه بتاريخ الجنون، وقد كان المجنون، برأي فوكو، ابتداءً من القرون الوسطى، هو ذلك الذي لا يتداول خطابه كما يتداول خطاب الآخرين، فقد يعتبر حديثه فارغاً ولا قيمة له، حديثاً لا يمتلك أية حقيقة ولا أية أهمية، حديثاً لا يمكن أن يكون محط ثقة من طرف العدالة ولا يمكن أن يؤخذ كشاهد على صدق عقد أو ميثاق، ولا يمكن حتى أن يسمح له بممارسة القربان في القداس، وأن يجعل من الخبز جسداً؛ وقد يحدث أيضاً في مقابل ذلك أن تنسب له قدرات غريبة، بالتعارض مع كل الباقي، أي القدرة على الجهر بحقيقة مخفية، والقدرة على التعبير عن المستقبل، وعلى الرؤية الساذجة لما يمكن أن تدركه حكمة الآخرين.
وقد كان التعرف على جنون المجنون يتم عبر أقواله، وقد كانت أقواله في الحقيقة هي الموقع الذي تمارس فيه عملية القسمة؛ ولكنها لم تكن أبداً أقوالاً متقبلة ولا مستمعاً إليها، فقبل نهاية القرن الثامن عشر، لم يخطر أبداً على بال أي طبيب أن يحاول أن يعرف ما كان يقال في هذا الكلام (كيف قيل، ولماذا قيل)، الذي كان مع ذلك كلاماً يحقق التمايز، كل هذا الخطاب الواسع للمجنون كان يتحول إلى نوع من الضجيج، ولم تكن الكلمة تعطاه إلا بصورة رمزية، على المسرح حيث كان يتقدم مسالماً ومجرداً من سلاحه، لأنه يلعب فيه دور الحقيقة المغطاة بقناع. وقد نبه فوكو إلى أن للجنون تاريخاً، وأنه ليس مقولة متعالية تقع فوق التاريخ والمجتمع. مثلما نبه إلى أن المؤسسة الطبية ليست طبية تماماً، وأنها متواطئة بشكل أو بآخر مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع ومع الطبقة البرجوازية المهيمنة.
والجنون ظاهرة ظلت في حالة كمون لمدة قرنين تقريباً، وتشكل حالة رعب كتلك التي أحدثها الجذام، وإنه من الغريب أن نلاحظ أن كلام المجنون قد ظل لعدة قرون في أوربا، كلاماً لا يسمع، وإذا استمع إليه، فإنه يستمع إليه ككلام يعبر عن الحقيقة، أو أنه يسقط في العدم، يرفض حالما يتلفظ به، أو يكشف فيه عن عقل ساذج أو ذي دهاء، عن عقل أكثر معقولية من عقل العقلاء، وعلى كل الأحوال، سواء كان كلام المجنون مبعداً أو مستعملاً بصورة سرية من طرف العقل، في معناه الدقيق، فإنه كلام لم يكن موجوداً.
وفي كتابه تاريخ الجنون، يناقش فوكو الجنون في مراحل ثلاث، هي: العصور الوسطى، التي كان يعامل بها المجنون كالمصاب بمرض الجذام كما أسلفنا، إلا أن هذه النظرة ستتغير مع بداية عصر النهضة؛ ويرجع فوكو سبب هذا التغير، إلى الزخم الأدبي الذي حفلت به جل المؤلفات الأدبية، التي تمحورت أساساً حول ظاهرة الجنون، وبالتالي ستتحول النظرة إلى الجنون، لتتخذ بعداً مخالفاً لما كانت عليه قبل عصر النهضة. ويرى فوكو أن علة ذلك كانت في تحريك الإحساس به، وهو ما يوجد في أساس الصياغات التي تمت حوله في بداية عصر النهضة. وبالتالي أخذ الجنون مكانته في خطاب عصر النهضة، من خلال التناول المفرط للظاهرة في الإصدارات الأدبية على اختلاف توجهاتها، إذ نظر للجنون في ارتباطه مع اللغة بشكل مباشر. وهذا بحسب فوكو امتياز خاص منحه عصر النهضة لعنصر من عناصر النسق، ويتعلق الأمر بالعصر الذي يتعاطى مع الجنون ضمن حقل اللغة. هذه هي المرحلة الثانية من المراحل الثلاث التي ناقش فيها فوكو ظاهرة الجنون، وهي المرحلة التي أنصفت هذه الظاهرة، لأن العصر الكلاسيكي، سيأتي ليسكته بقوة غريبة.
وبالأخير، إذا كان المفصل الأساسي في تاريخ الجنون هو البحث في طبيعة وشكل العلاقة بين الجنون والعقل، فذلك يعود لاعتبارين، يتمثل الأول في أن مقارنة فوكو بين الجنون والعقل تمثل نوعاً من النقد لمجمل العقل الغربي، وبالتالي لمشروع الحداثة، التي ارتكزت على تمجيد العقل والإعلاء من شأنه، واعتباره مركزاً تقاس عن طريقه كل الأشياء الأخرى، أما الاعتبار الثاني، فيتمثل في أن مناقشة فوكو لطبيعة العلاقة بين العقل والجنون، انطلقت من فكرة آمن بها ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة ورائد العقلانية الغربية، تفيد بإقصاء الجنون بالإطلاق من ساحة المعرفي العقلاني، فهي مناقشة وسجال بين تيارين واتجاهين ربما الحداثة وما بعدها.
أما المنظومة الثالثة للإبعاد، فتتمثل في التعارض بين ما هو حقيقي وما هو خاطئ. ويعتبر هذا التعارض أكثر منظومات الإقصاء خفاءً، لأنه لا يتخذ طابعاً عنيفاً أو مؤسسياً، ولكن الأمر يبدو، جلياً إذا كشفنا عن إرادة الحقيقة التي توجه وتحكم خطاباتنا.
وتمثل الحقيقة بحد ذاتها، مفهوماً مركزياً وأساسياً في مجمل دراساته، حيث كان لهذا المفهوم حضوراً متميزاً، يتمفصل مع كافة أعماله، إذ يرفض فوكو فكرة التسليم، بكل ما ظل قاراً وثابتاً في تاريخ الفكر، واضعين في أذهاننا تمييزاً مهماً بين مفهوم الحقيقة كما جاء في مجمل تاريخ الفلسفة الغربية، وبين دلالة هذا المفهوم لدى فوكو، إذ إن دلالة الحقيقة لدى الأخير، ليست حصيلة تطابق بين المفهوم ومرجعه في الوجود، ولا نتاج تأمل ذاتي يمارسه الـ أنا أفكر، كما أنها ليست حصيلة نقد للعقل يعين حدود المعرفة الصحيحة والمشروعة.
ويؤكد فوكو أننا إذا وضعنا أنفسنا في مستوى قضية مصوغة ضمن خطاب ما، فإن الفصل بين ما هو حقيقي وما هو خاطئ ليس فصلاً اعتباطياً، ولا قابلا للتعديل، ولا مؤسسياً، ولا عنيفاً، لكن إذا وضعنا أنفسنا في مستوى آخر، وإذا طرحنا السؤال بقصد معرفة ماذا كانت وما هي باستمرار إرادة الحقيقة عبر خطاباتنا، هذه الإرادة التي عبَرت قروناً من تاريخنا، أو ما هو، في شكله العام جداً، نوع القسمة الذي يحكم إرادتنا للمعرفة، فربما كانت بمثابة نسق للإبعاد، نسق تاريخي، قابل للتعديل، ويمارس إكراهاً مؤسسياً، نراه يرتسم أمامنا.
وتكمن الجذور التاريخية لهذا التعارض بالرجوع إلى التراث اليوناني، إذ كان الخطاب الحقيقي قبل نشوء الفلسفة هو الخطاب المهيمن ذا الطقوس الخاصة الذي يفضي إلى ممارسة محددة، فيشيد فوكو بالخطاب لدى شعراء الإغريق، فهو الخطاب الحقيقي، الخطاب الذي يحظى من طرفنا – كما يقول فوكو- بالاحترام والهيبة، الخطاب الذي كان يتعين الخضوع له لأنه هو السائد، هو الخطاب الصادر عمّن له الحق في ذلك وبحسب الطقوس المطلوبة؛ إنه الخطاب الذي كان يطبق العدالة على مستوى القول ويعطي لكلٍ نصيبه، إنه الخطاب الذي يعلن لا عما سيقع فقط، بل يسهم في تحقيقه، ويحمل معه مساهمة الناس ملتحماً بذلك مع المصير. يلاحظ فوكو أن إرادة الحقيقة قد تعددت أشكالها؛ فإرادة الحقيقة التي تنظم المعارف في القرن التاسع عشر، لا تلتقي من حيث موضوعاتها وتقنياتها مع إرادة الحقيقة التي تؤسس الثقافة الكلاسيكية.
ويقول: بعد قرون من الزمن، أصبحت الحقيقة الأسمى لا تقوم في ما كانه الخطاب أو في ما كان يفعله، بل تقوم في ما كان يقوله: لقد حل اليوم الذي انتقلت فيه الحقيقة من الفعل الطقوسي الناجع والصائب، أي من فعل النطق إلى المنطوق نفسه، نحو معناه وشكله وموضوعه وعلاقته بمرجعه. ويضيف فوكو: لقد أقيمت قسمة معينة بين هزيود وأفلاطون، قسمة تفصل بين الخطاب الحقيقي والخطاب الخاطئ؛ وهي قسمة جديدة، لأن الخطاب الحقيقي بعد الآن لم يعد هو الخطاب القيم والمرغوب فيه، لأنه لم يعد هو الخطاب المرتبط بممارسة السلطة، لقد طرد السفسطائي.
وهنا يرسم فوكو لوحة تاريخية للفكر الغربي، بدءاً من اليونان وحتى العصر لحديث، لوحة يصف فيها مختلف الأشكال التي تظهر فيها إرادة الحقيقة، ومختلف التوزيعات التي تقيمها بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، بين خطاب العقل الأفلاطوني، وخطاب السوفسطائيين، بين خطاب عصر النهضة القائم على القياس والتصنيف، وخطاب العصور الوسطى الغيبي. إنها آلية واحدة، آلية إرادة الحقيقة، آلية سلطوية بالأساس، حاول بعض المفكرين مناهضتها، من أمثال نيتشه.
وقد شكلت إرادة الحقيقة سلطة قوية تمارس ضغطاً شديداً على الأشكال الخطابية الأخرى، مثل تأسيس الأدب الغربي على نموذج الحقيقة، وكذلك تشكل خطابي القانون والاقتصاد على قيم المعقولية العلمية. فهي مدعّمة وموجهة من طرف قدر هائل من الممارسات كعلم التربية، ومثل منظومة الكتب، والنشر والطبع، والخزانات، ومثل الجمعيات العلمية... وبهذا الشكل، فإن إرادة الحقيقة باعتمادها على دعامة وعلى توزيع مؤسسين، تميل إلى أن تمارس نوعاً من الضغط على الخطابات الأخرى وكأنها سلطة.
ومن بين منظومات الأبعاد الثلاثة الكبرى التي تمس الخطاب، أي الممنوع، والجنون، وإرادة الحقيقة، يتحدث فوكو، كما يقول هو، عن إرادة الحقيقة بشكلٍ مطول، وذلك لأن المنظومات الأولى لم تكف عن الصب في اتجاه منظومة إرادة الحقيقة؛ وذلك أيضاً لأنها تحاول، أكثر فأكثر، أن تأخذ المنظومتين الباقيتين لحسابها، لكي تعدلهما وتؤسسهما في نفس الوقت، وذلك لأنه إذا كانت المنظومتان الأوليان تصبحان هشتين أكثر فأكثر، وأقل يقيناً من حيث أننا نشاهد أن إرادة الحقيقة تخترقهما الآن، فإن هذه الأخيرة ما تفتأ مقابل ذلك، أن تتدعم، وتتجه إلى أن تصبح أكثر عمقاً وأقل قابلية للإحاطة. أضف إلى ذلك، ما يذهب إليه الدكتور حيدر ناظم في تأكيد فوكو على إرادة الحقيقة إلى تبريرين، يتعلق الأول بالمرجعية التي ينضوي فوكو تحت لوائها، وهو تيار ما بعد الحداثة، الذي عمل بشتى الطرق في محاولة تجاوز فلسفة الحداثة وثنائياتها، التي توحي وتفترض وجود حقيقة مفارقة، ثابتة وقارة، أزلية لا تتغير، فظهرت تباشير ما بعد الحداثة بانهيارها، على أن لهذه التباشير إرهاصات نقدية سابقة متمثلة بمواقف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. أما المبرر الثاني فيتعلق بفلسفة فوكو نفسها، حيث يشير فوكو في أكثر من مناسبة، إلى أن البحث عن الحقيقة، هو ما جعل منه فيلسوفاً، فيقول: لقد كررت عبثاً أني لست فيلسوفاً، إلا أنني إذا كنت في النهاية أهتم بالحقيقة، فإني رغم كل شيء فيلسوف.
ومع ذلك فإرادة الحقيقة هي الشيء الذي قلما يتحدث عنه، كما لو أن إرادة الحقيقة وتعرجاتها كانت بالنسبة لنا محجوبة من طرف الحقيقة نفسها خلال مسارها الضروري، وربما كان السبب في ذلك بما يلي: أنه إذا لم يعد الخطاب الحقيقي منذ الإغريق، وهو ذلك الخطاب الذي يستجيب للرغبة أو ذلك الخطاب الحقيقي، فبم يتعلق الأمر إذن إن لم يكن بالرغبة وبالسلطة؟... إن الخطاب الحقيقي، الذي تخلصه ضرورة شكله من الرغبة وتحرره من السلطة، لا يمكن أن يتعرف على إرادة الحقيقة التي تخترقه؛ ومن صفات إرادة الحقيقة، هذه التي فرضت نفسها علينا منذ مدة طويلة، أنها لا يمكن ألا تقنع الحقيقة التي تريد.