المخدرات الثقافيَّة

ثقافة 2024/05/15
...

أحمد شمس

بالعودة إلى التنظيرات الأولى للعلماء التطوريين الأوائل مثل السيد هربرت سبنسر والسير إدوارد تايلور اللذين عاملا المجتمع معاملة جسد الإنسان وشبّهاه به فكانا مفتاحاً لبلوغ المدرسة البنائية الوظيفية في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، ومن ثم إدراج منظمة الصحة العالمية السلامة الاجتماعية ضمن مؤشرات الصحة العامة، فصنفت المشكلات الاجتماعية على حالات مرضية، أتساءل إن كان يمكننا أن نبني بعض التوصيفات الثقافية والاجتماعية على أساس التوصيفات الفيزيقية للجسد البشري؟! الأمر معقد بعض الشيء فيما إذا عومل بجدية لغوية وعلمية. لكن مع اعتراف بجزافية نحت مصطلح على أمل احتمال صحته يمكن تخطي عنوانه والنظر في المضامين التي يراد لها أن يختزنها ويعبّر عنها.
إنَّ جسد الإنسان عرضة للإدمان بشكل عام، وهذا الإدمان ليس حالة جسدية صرفة فالحصة الأكبر فيه للجانب النفسي والعقلي وللجسد حصة الاستجابة لذلك الإدمان فيزيقيا وتمثيله وتعاطيه.
إنَّ ثنائية (الجسد والنفس) هذه يمكننا مقابلتها مع ثنائية أخرى هي (المجتمع والثقافة) إذا يقابل المجتمع الجسد وتقابل الثقافة النفس ويتم القياس على ذلك بتفحص الخصائص الإدمانية وتحديداً التخديرية فليس كل إدمان هو تخدير لكنّ المخدرات هي واحدة من أهم مشكلات الإدمان.
المجتمع هو الآخر في سلوكه الجمعي يتعرض للإدمان، كالجسد تماماً، ولتوخي الدقة يجب الحديث عن الإدمان على مستوى الجماعات. لاعتبارات متعلقة بتنوع الثقافات بين الجماعات المختلفة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ أهم أنواع الإدمان هو إدمان المخدرات فإذا كانت المخدرات لها فعلها وتأثيرها المعروف في الجسد البشري وجهازه العصبي وصحته النفسية، وإحداث استجابات خاصة لكل مخدر، فماذا ستكون تلك المخدرات التي تؤثر في جسد المجتمع؟ وما تفعل به؟ وكيف يستجيب لها؟
إنَّ الجماعات تلجأ أيضاً إلى التخدير الجمعي للانفصال عن واقع معين لا تستطيع التعايش معه كما هو أو غير راغبة بصورته التي هو عليها، فنراها تصنع في ثقافاتها بدائل تعيش في تخيلها أو توهمها أو تمثيلها وعادة ما تلجأ إلى صناعة مناسبات ثقافية معينة لها طقوسها الخاصة ولها رمزياتها وتأويلاتها، ليبدو الواقع المرفوض مقبولاً، أي تتبدل تسميته وتتبدل النظرة إليه ويتبدل الشعور به. ولتقريب الصورة يمكن أخذ مثال افتراضي: الوحل صورته الاتساخ وفي العادة نتحاشاه ونتنظف منه، لكنه لو ارتبط بلعبة شعبية، تتضمن اعتقاداً بأنَّ التزلج على الوحل والغطس فيه في توقيت معين من مواقيت السنة يحمي الجلد من مرض معين أو أي اعتقاد آخر، مع طقوس لعب متنوعة ومسابقات فيها فائزون وخاسرون. هكذا تتبدل صورة الوحل وتسميته من أوساخ إلى لعبة ومن مكروه إلى محبوب وبدلاً عن تجنبه نذهب إليه. هذه صورة تقريبية غير دقيقة لما يحدث.
الثقافات تقوم بتخدير الجماعات في ظروف معينة لحمايتها من التأثر بتلك الظروف، أو لصناعة المتعة فالمخدرات أحد أهم أهدافها المتعة بالإضافة إلى الانفصال عن الواقع.
بعض الجماعات تدمن هذه المتع التي تفتح أبوابها الثقافة، فتقوم بعمليات إنتاج مخدرات ثقافية مستمرة وتتميز بطابع التجدد والتطور فلا تبقى على حالها كي لا تقع في فخ الاعتياد (الروتين) فطبيعة المخدرات إذا أصبحت روتيناً تفقد قيمتها وهدفها ولذلك تتطلب زيادة الجرعة، وكلما زادت مدة الإدمان زاد طلب المدمن لجرعات أكبر بعد أن تصبح الجرعة القديمة روتيناً اعتيادياً. وهكذا يجري الأمر مع الثقافات، فتتحول بعض الجماعات إلى جماعات غارقة في عالم رمزي طقوسي مناسباتي لا يكل عن إنتاج المزيد من طقوس المتعة واللعب والتغيب عن مشهد الواقع الأصلي بمشاهد تعويضية داخل اعتقاد خاص وحمولات رمزية وتأويلات لا تنتهي.
إنَّ المخدرات الرقمية يمكن عدها مثالاً لتجسيد تلك الرغبة المتنامية في صناعة المتعة والانفصال عن الواقع، كما يمكن أن تتعدى المخدرات الثقافية حدود الصناعة الطقسية والمسرحية والاعتقادية إلى صناعات أخرى كالغناء والموسيقى والإغراق في عالم من الألحان واللازمات الطربية والرياضات والسلوك الرقمي الإدماني ذي الطابع التخديري كمجاراة الرائج أو ما يعرف بـ(الترند) والتسابق لتمثيله والاستجابة له، على أن يجري ذلك ضمن جماعة خاصة أو جيل معين غالباً يكون جيل المراهقين أو الشباب وربما يشمل خطا عرضيا شريحة واسعة في المجتمع.