ضريبة الجمال في إسبانيا القرن 17

ثقافة 2024/05/15
...

باربرا روسيلو *1

ترجمة: د . رضا لأبيض

في القرن 17، كان من غير المعقول ألّا تكون بشرة المرأة شفافة وخدودها ورديّة وشعرُها أشقر إذا أرادت أن تكون جميلة وجذابة. لكنّ مستحضرات التجميل التي كانت تُستخدم كانت سامّة، حتى أنَّ البعضَ منها يسبّب العمى.
في رحلتها إلى إسبانيا سنة 1679، سجّلت ماري كاثرين Marie-Catherine لو جوميل دي بارنفيل، وهي أديبة معروفة باسم مدام دي أولنوي Madame d’Aulnoy ، انطباعاتٍ غير جيّدة عن بشرة النساء الإسبانيات. كتبت: “لم يسبق لي أن رأيتُ السّلطعون بهذه الألوان الجميلة”.

 إنَّ الأحمر الذي فاجأ أولنوي كان سببه استخدام كمّيات كبيرة من المكياج الأحمر. إضافة إلى ذلك، تخبرنا أولنوي كيف أنَّ سيّدةً إسبانية أمسكت كوبًا مملوءًا مسحوقا أحمر، وبفرشاة كبيرةٍ لم تُطْلِ خدّيْها وذقنها وتحت أنفها وجفنيْها وما حول الأذنيْن فحسبُ، بل صبغتْ أيضًا باطنَ يديْها وأصابعَها وكتفيْها.
وتتذكّر مدام أولنوي، في كتابِ رحلتها إقامَتها في إسبانيا في نهاية سبعينيات القرن السّابع عشر، عند غروب العصر الذهبي ، l’edad de oro كما يحبُّ المؤرخون تسمية العصر الذي بدأ مع صعود إسبانيا كقوة عظمى أوروبية واستعمارها مساحاتٍ واسعة من أميركا الوسطى والجنوبية منذ سنة 1492، والذي انتهى في نهاية القرن السابع عشر بسبب تفاقم المشكلات الاقتصادية التي واجهتها البلادُ.
وخلال إقامتها، احتفت أولنوي، على نطاق واسع، بالعديد من جوانب الثقافة الإسبانية، بما في ذلك الأدب والمسرح.
وفي حكايات رحّالةٍ آخرين، غالبًا ما تمّت الإشارةُ إلى أنَّ مظهر المرأة يعكسُ ثروة إسبانيا وقوَّتها الهائلة. كتبَ ريتشارد وين Richard Wynn ، وهو سياسيٌّ رافق الأميرَ تشارلز الأول Charles Ier ملك إنجلترا في رحلة إلى إسبانيا سنة 1623، أنه “ من بين كلّ هؤلاء النّسوة، أجرؤ على أن أقسم إنه لم تكن أيُّ واحدةٍ منهنّ دون مكياج صارخٍ إلى درجة أنهن بَدَوْنَ وكأنهنّ يرتدين أقنعةً عوضًا عن وجوههنّ”.
الإفراط في المكياج:
تقول أماندا ووندر Amanda Wunder، وهي مؤرخة ثقافية ومؤلفة كتاب حول الموضة الإسبانية زمن [الرسام] فيلاثكيز Vélasquez (1599- 1660)، في ما يتعلق بالموضة والجمال، “كانت إسبانيا تتّخذ اتجاها مختلفا” عن بقية القارة الأوروبية. وأوضحتْ أنه في حين كانت الفرنسياتُ والإنجليزيات تفضّلْن البشرة الطبيعية، كانت النساء الإسبانيات تستندن في معايير جمالهن إلى المكياج الذي كان يُوضع على نحوٍ مسرف ومتكلّف.. وأنّ البلاط الإسباني فرضَ معيار الجمال هذا على بقية طبقات المجتمع، وكان الأغنياءُ آنذاك أكثر ظهورا في الفضاء العام ممّا كانوا عليه في العصور الوسطى.
لقد كان النبلاءُ وأفراد العائلة المالكة يظهرون بانتظام في المسارح، وكانت بورتريهاتهم تُعلَّق في الأماكن العامّةِ أثناء المهرجانات. ولذلك انتشرتْ معايير الجمال التي عبّروا عنها، بين طبقات المجتمع المختلفة. تقول أماندا: “كان الجميع يغطون أنفسهم بطبقات من المكياج، وكانت الملكة هي التي قرّرت ذلك. لقد كانت ظاهرةً تتجاوز الطبقات.”
ولتحقيق المظهر المطلوب، خلال العصر الذهبي الإسباني، خضعت النساء لروتين طويلٍ ومعقّد للعناية ببشرتهن. وكانت لديهن أيضًا غرفةٌ مخصصة لذلك، وهي نوع من المخادع يسميه الإسبان توكادور tocador.

إنَّ الـ”توكادور” Tocador قبل أن يكون اسما لغرفة النساء كان يشير إلى غطاء الرأس الذي يرتديه الرجالُ والنساء عند النّوم. ولذلك سمّي به المكانُ الذي تجهّز فيه النساءُ أنفسَنّ وتصفّفن شعورهنّ. وهو المكانُ الذي كنّ يخزّن فيه أدوات العناية بالبشرة والشّعْر والمكياج وإكسسوارات التجميل. ولذلك أصبحت أدواتُ التجميل تسمى أيضا توكادور. ثمّ تمّ صنع صناديقَ رائعةٍ لحفظ المرآة وقوارير مستحضرات التجميل. وإذا كانت السّيدة من الأثرياء زينت مرآتها بإطارٍ فاخر من خشب الأبنوس الهندي أو الخشب الملّون أو من الفضّةِ.
شاحبة كالجثة
في إسبانيا في القرن السابع عشر وما بعده، كان الجمالُ الأنثوي المثاليُّ يتجسّد في الشَّعر الأشقر وفي شحوبٍ يشبه شحوبَ الجثة. لذلك شاع تبييضُ النساء بشرتهنّ. ولهذا الغرض، تمّ استخدامُ السوليمان Solimán، وهو مستحضرُ تجميلٍ يحتوي مادة الزئبق، ويمكن أن تسبّب تركيبتُه الكيميائية ضررا دائما للجلد. وفي الوقت نفسِه، اُستخدمت موادُ التبييض المخفّفة لجعل لون الشّعر فاتحا بدرجة مّا.
ومثلما لاحظت أولنوي كانت المادةُ الأساسية للتوكادور الإسباني في ذلك الوقت مسحوقا أحمر. وكانت تُعرف باسم color de granada (لون الرمان)، وتُباع ملفوفةً في أوراق توضع في أكواب تسمى سالسيريلا salserillas . هكذا أصبحت الوجوهُ شاحبة. لقد كانت النساء تجمِلّن شفاهَهن وخدودَهن بهذا المكياج، وتغمِّقن حواجبهنّ بخليط من الكحول والمعادن السّوداء. وللمحافظة على أيديهن بيضاءَ وناعمة، كنّ يستخدمْن مرهمًا يُصنع من اللّوز والخردل والعسلِ.
ومن المواد الكيميائية الأخرى في تركيبة هذه المُنتجات، من المحتمل أن يكون الكبريت soufre الأكثر استخداما. وهي كلها مكوّنات ضارّة. وكانت النساءُ تبيِّض وجوههن أحيانا بالأوكسي كلوريد البزموت oxychlorure de bismuth ( يسمّى أحيانا: الأبيض الإسباني) ممّا يؤدي إلى تهيّج الجلد والعيون. وكذلك باستخدام رواسب الرصاص plomb السّامة.

وإذا كانت تركيبة المسحوق الأحمر قد تغيّرت على مرّ القرون، فإنه، خلال العصر الذهبي الإسباني، كان غالبًا ما يُصنع من الكبريت المتفحم والزئبق والرصاص والمينيوم minium (أكسيد الرصاص)، من بين موادَ أخرى.
في كتابه “العطلة صباحا وبعد الظهر” El Día de Fiesta por la Mañana y por la Tarde، الذي نُشر سنة 1654، يوظّف رجل الأخلاق خوان دي زاباليتا Juan de Zabaleta الحجج الدينيّةَ للتنديد باستخدام مستحضرات التجميل. يصور امرأةً في التوكادور تستعدّ ذات صباح لمهرجان ديني. يقول: “تضع علبة مستحضرات التجميل على اليمين وتبدأ في صبْغ وجهها، دون أن يخطر ببال هذه المرأة أنَّ الله إذا أرادها أن تضع المكياج لكان خلقها كذلك. لقد وهبها اللهُ الوجهَ الذي يناسبُها، ولكنها اختارت أن تتزيّن بوجه لا يليق بها.”
إنَّ عمل زاباليتا يعدّ جزءًا من تقليد أدبي يزدري المرأةَ ويدين طقوسَ جمالها ويعتبرها اعتراضا على الخلْق الإلهي. وإذا كانت بعضُ النساء تريْن هذا الرأيَ وتعتقدن أنَّ مثل تلك التقاليد حمقاء، فإنَّ الأسبابَ مختلفةٌ. من ذلك أنَّ ماريا دي زاياس María de Zayas، وهي من أدباء العصْر الذهبي الإسباني وتُعتبر من النسويات الأوائل، كانت ترى في الإكراهَ الاجتماعيَّ التي تمت ممارستُه على النساء لوضع المكياج وسيلةً لمنعهن من التحرّر.
وفي رواية كُتبت في ثلاثينيات القرن السّابع عشر، تقول إحدى الشّخصياتِ: لو كرست النساء أنفسَهن “للاقتدار على استعمال الأسلحة ودراسة العلوم بدلاً من الاهتمام بإطالة الشَّعر وتخضيب الوجوه، لكنّ تجاوزن الرجالَ بالفعل في عديد المجالات”.
وفي أواخر القرن السابع عشر، عندما انحسرتْ ثرواتُ إسبانيا الإمبراطورية وأفلَ العصرُ الذهبي، انخفض الاستخدامُ المفرط للمكياج. وفي أعقاب الثورة الفرنسية سنة 1789 اجتاحتْ أوروبا موضةٌ أكثر بساطة وطبيعيّة، وتخلى الناسُ عن الاستعمالات المعقّدة للشَّعر المستعار perruque والمكياج الذي كان شائعًا في ما مضى.
رغم ذلك، فإنَّ المواقفَ من المكياج غالبا ما كانت تتغير بصفة دورية. لقد حلّت المساحيقُ التي تحتوي أكسيد الزنك oxyde de zinc محلّ الوصفات السّامة التي تعتمد الرصاص، وشهد استخدامُ المكياج انتعاشا في الأوساط الشعبية في أوروبا.
وفي منتصف القرن 19، خرج المكياج الثقيلُ من معايير الموضة والجمال بسبب ارتباطه بالممثّلات والبغايا. ولكن، رغم ذلك، عادت الوجوه المصطنعة إلى الواجهة من جديد مع ظهور مستحضرات التجميل التي تُستخدم في المسرح، وتمّ تسويقُها على نطاق واسعٍ في أوروبا وأميركا الشمالية في عشرينيات القرن العشرين. ومنذ ذلك الحين صار استخدامُ المكياج موضوعَ نقاش حادّ خاصة عندما يتعلق الأمر بالأنوثة والنّسوية، وهو ما لم يكن خلال العصر الذهبيِّ الإسباني.

 *1 -  Dans l’Espagne du 17e siècle, il fallait vraiment souffrir pour être belle
DE BARBARA ROSILLO, 25 AVR. 2024,
https://www.nationalgeographic.fr/histoire/maquillage-toxique-mode-histoire-dans-espagne-du-17e-siecle-il-fallait-vraiment-souffrir-pour-etre-belle