روايات التدهور البيئي.. حياة مهددة

ثقافة 2024/05/15
...

  ترجمة: كامل عويد العامري

تسرد رواية {جذور السماء} نضال موريل وما يقوم به نيابة عن الفيلة، ومضايقات السلطات له، وفي الوقت نفسه مصالح مختلف الأطراف المتضاربة: من أجل الفيلة، من أجل الاستقلال، من أجل السلطة الاستعمارية، من أجل الحفاظ على التقاليد، من أجل تقدم الإنسان نحو الحداثة، من أجل المصالح قصيرة الأجل، من أجل شرف الإنسان... أما گلوباليا فهي رواية تخيلية نشرت عام 2004. تدور أحداث الرواية في عالم خيالي يسمى Globalia، وهو مجتمع مستقبلي يتميز بالتكنولوجيا المتقدمة والسيطرة الشاملة للحكومة على حياة المواطنين.
من المستحيل قراءة رواية روي لويس (لماذا أكلت أبي) من دون أن نذكر توأمه الآخر، شبيهه الأدبي، ونصف وعيه الموازي، وهو الكتاب الرائد لرومان غاري، {جذور السماء}، الذي نُشر في عام 1956، في زمن لم يكن مصطلح "البيئة" يُستخدم سوى نادرًا.
غاري، الذي حصل من خلاله على جائزة غونكور الأولى، يدين فيه إبادة الفيلة بشكل جماعي في تشاد.
وقبل ذلك ببضعة أشهر، حصل فيلم "عالم الصمت" للمخرج جاك إيف كوستو، الذي قاد المشاهدين إلى أعماق البحار لمتابعة استكشافات السفينة البحرية الجيولوجية كاليبسو، على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان.
وكانت السينما والآداب قد سبقا وتناولا مسألة البيئة للإدانة، وذلك بعد مرور أحد عشر عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية، المتمثلة في التهديدات التي تواجه الحياة البرية والنباتية على الأرض.
لقد كتب رومان غاري في مقدمة روايته "جذور السماء" التي نشرت عام 1980: " أراد البعض أن يكتب، منذ ظهور هذا الكتاب قبل أربع وعشرين عامًا، أنه أول رواية 'بيئية'، وأول نداء لانقاذ منظومتنا الحيوية المهددة. لم أكن أدرك آنذاك، بنفسي، مدى الدمار الذي كان يحدث أو مدى خطورة الوضع بأكمله." إذا سألناه اليوم، فمن المحتمل أن يعبر عن قلق أعمق وأكثر إلحاحًا تجاه الأزمة البيئية العالمية.
قد يؤكد على تسارع التدهور البيئي، وزيادة حجم التهديدات المتنامية التي تواجه التنوع البيولوجي، وضرورة اتخاذ إجراءات جادة وسريعة لحماية كوكبنا.
في عام 1968، في "رسالة إلى الفيل" نُشرت في صحيفة لوفيغارو، أشاد رومان غاري بكفاح بطله، موريل: "في رأيي، سيدي الفيل العزيز، أنت تُمثِّل تمامًا كل ما هو مهدَّد اليوم بالانقراض باسم التقدم والكفاءة والمادية المتكاملة والأيديولوجية أو حتى العقل، لأن استخدامًا معينًا مجردًا وغير إنساني للعقل والمنطق يصبح على نحو متزايد شريكًا لجنوننا القاتل. يبدو الآن واضحًا أننا تصرفنا ببساطة تجاه سلالات أخرى، وخاصة بالنسبة لكم، كما نحن على وشك فعله بأنفسنا.".
تمثل "جذور السماء" واحدة من أوائل الروايات التي سلطت الضوء على مفهوم الواجب البيئي. قبل بضعة قرون، وكان ميشيل دي مونتاين يعارض بقوة نظرية الحيوانات كآلات لرينيه ديكارت، مؤكدًا على ضرورة احترام واهتمام خاص بالكائنات الحية الأخرى، وذهب إلى حد المطالبة بـ "واجب عام للإنسانية، ليس فقط للحيوانات التي لها حياة وإحساس، ولكن حتى للأشجار والنباتات". "هناك تفاعل ما بينها وبيننا، وتفرض بعض الالتزامات المتبادلة"، كما كان يؤكد في كتابه الثاني من أوراقه، داعيا قارئه إلى العناية بالحياة بجميع أشكالها.
غاري يظهر كوريث الفيلسوف. بالنسبة له، تتجانس البيئة مع النزعة الإنسانية حيث يرى أن الدفاع عن الطبيعة يتطابق مع الدفاع عن كرامة وحرية الإنسان. "
الفيل هو الفرد"، يلخص غاري في مقابلاته مع باتريس غالبو في برنامج (فرنسا الثقافة) في عام 1973. حفظ حياة الفيل يعادل حفظ الحق الفردي في الحرية والكرامة، طالما أن هذه القيم تميز الإنسان ككائن حي.
يمكن أن يبدو مثل هذا النضال عديم الجدوى إذا كان الهدف مجرد ضمان بقاء الجنس البشري.  
أن غاري يقدم عن قصد مصير الفيلة بدلاً من مصير الأسود أو أي حيوان آخر ضحية صيد مفرط: "الطابع الضخم، والحركة البطيئة، والعملقة تمثل كتلة من الحرية تجعلك تحلم. في الأساس، إنها آخر الأفراد." في الواقع، الحجم الضخم وبطء الفيل يجعله حيوانًا مُعِيقًا، تمامًا كما تعيق حقوق الإنسان بعض الزعماء عديمي الضمير: "نبدأ بالقول [...] إن الفيلة كبيرة جدًا، ومُعِيقة جدًا [...] وبعد ذلك ينتهي بنا الأمر لنقول الشيء نفسه عن الحرية - الحرية والإنسان تصبحان مُعِيقتين على المدى الطويل."
إذا كان بعض الناس يتهمون موريل بعدم الاهتمام بقضايا أكثر نبلًا من قضية الفيلة، فذلك لأنهم لا يدركون أهمية العلاقات بين الأنواع المختلفة التي تعيش على الأرض: "لم نشعر بأننا نشهد من أجل الفيلة، بل ضد البشر"، وكان الأب فارگ يستنكر بشدة، الذي غضب من لامبالاة موريل تجاه الدين.
وعلى العكس من ذلك، يجعل غاري وبطله من الفيلة حماة لبشرية مهددة بالانقراض؛ فعيون فيلة الصغار تتأمل فضاء "حيث يبدو فيه أن جميع الصفات الإنسانية المشهود لها قد لجأت إليها، والتي تخلو منها البشرية بشدة".

گلوباليا
لجان كريستوف روفان
إن صورة "الهامش البشري" المتكررة، التي لم تتوقف عليها الطموحات الإنتاجية والقومية في تآكل، توسع من فكرة الملاذ، ومن فضاء محايد حيث تختفي فيه معايير المنفعة والكفاءة وراء قيم أقل ربحية، ولكنها كم هي من قيم أساسية " لقد كان يدافع عن هامش يمكن أن يلجأ فيه إلى ما لا يحقق عائدًا ماديًا أو كفاءة ملموسة، ولكنه يبقى في النفس البشرية كحاجة أبدية.
وفي عام 2004، غامر جان كريستوف روفان في تصوير العواقب التي قد تترتب على عالم يُمحى فيه الهامش المنقذ باسم الرفاهية العامة الشمولية. إن روايته المرتقبة "گلوباليا"، حيث تعيش البشرية تحت قبة، مغلقة في فقاعة زجاجية مكيفة تمنع أي اتصال مباشر مع الطبيعة وحيث يحافظ فيها "المدافعون عن الطقس المعتدل" على مناخ اصطناعي، فيها ما يكفي لإثارة الرعب.
في گلوباليا، "للثقافة أسبقية على الطبيعة"، وتصحيح لأوجه عدم المساواة والظلم. إن الشمولية الإيكولوجية التي أدخلتها الحكومات تكمم الحريات الأساسية. يحاول أبطال غاري "الاستجابة بأنفسهم لحاجتهم إلى العدالة والحرية والحب - تلك الجذور الراسخة في صدورهم من السماء". إن هذا الارتكاز الأرضي هو الذي يمكّن الإنسان من الارتقاء روحيًا: "الجذور [...] كانت مغروسة بعمق في النفس البشرية - تطلّع مستمر ومعذب موجه إلى الأعلى وإلى الأمام - حاجة إلى اللانهائي، عطش، شعور بالوجود في مكان آخر، توقع غير محدود - كل ذلك، إذا ما اختزلناه إلى حجم الأيدي البشرية، يصبح حاجة إلى الكرامة، والحرية، والمساواة، والأخوة، والاحترام... لم تكن هناك جذور أعمق من هذه الجذور ولا أكثر تهديدًا".
يصبح الفيل هو الاسم الآخر للكرامة، وواجب الاحترام للإنسان. "يقول سان دوني الذي يتذكر رفضه عرض مينا: "في أعماقي، أنا في أعماقي فيل، لم ألمسها. بدافع الاحترام الإنساني - لكلٍ احترامه في النهاية. ويقول الكولونيل بابكوك في إشارة إلى استقامته الأخلاقية: "أشعر أنني لطالما احترمت الفيلة في حياتي".
إن تنوع المعاني المرتبطة بالفيلة في جميع أنحاء العالم هو موضوع مقدمة قصيرة ساخرة. "أعطونا يا صانعي الأفلام ما نحتاج إليه! أرونا، أيها الرفاق، قطعان الفيلة العظيمة في البرية..."، ويصرخ الشيوعيون وهم يغادرون مكاتب برافدا: "قصتكم عن الفيلة [...]. إنها حركة أخرى مناهضة للبرلمانية"، قال جان دوبور العقائدي في مقهى سان جيرمان. لكل واحد مثاله الفيل.

الأمل والمبادرة
"لم يعد هناك أي عزلة يشعر بها أولئك الذين أعادوا اكتشاف الجذور الخفية التي تربط الإنسان بالطبيعة. لم يعد هناك أي إحباط يشعر به أولئك الذين يرون جمال العالم"، كما جاء في كتاب "فرس النهر والفيلسوف"، وهو مجموعة من الملاحظات كتبها عالم الأحياء تيودور مونو. في عام 1942 [تيودور مونو‏، عالم طبيعة فرنسي، مستكشف، وباحث إنساني. مكتشف تكوين قلب الريشات كما يطلق عليه السكان المحليون.م] وبعيدًا عن فرنسا المحتلة، شارك مدير المعهد الفرنسي لأفريقيا السوداء قناعاته السلمية والبيئية على الرغم من الرقابة التي فرضها نظام فيشي.
ولا يزال شبح الحرب واغراء اليأس والاستسلام الانهزامي يخيم على رواية غاري التي تغازل فيها النزعة الإنسانية المثالية أحيانًا كراهية إنسانية مهينة.
تعاني معظم الشخصيات في رواية جذور السماء Les Racines du ciel من وحدة عميقة مرتبطة بماضيها، ويزداد الأمر سوءًا عندما تتشابك مع أحلك ساعات التاريخ.
بالنسبة لهذه الأرواح الجريحة، اليتيمة في السادسة عشرة من عمرها مثل مينا بعد تفجيرات برلين، والمدمنين على الكحول من ذوي السمعة السيئة مثل فورسيث الذي أمر بقتل الآسيويين في كوريا، والمسكونين بذكريات المعسكرات مثل موريل، فإن تشاد بمثابة ملجأ. "تتذكر مينا قائلةً: "كنت اعتقد حقًا أن تشاد هي المكان الذي يمكن أن تلجأ إليه في الطبيعة، بين الفيلة.
لم تعد القطط والكلاب كافية، ويبدو أن الفيلة والحيوانات الأليفة الغريبة هي الكائنات الوحيدة التي يمكن أن تملأ الفراغ الذي يطارد الناس بعد عنف الحرب غير المسبوق.
حتى أن الكولونيل البريطاني بابكوك نفسه لم يكن يشعر بالحاجة إلى إبقاء حبة فاصوليا قافزة قريبة منه، لدرجة أنها رافقته إلى قبره. وربما كان موريل أكثرهم وحدة: "هذا الشاب، موريل، كان في حاجة ماسة إلى الصحبة، كان يشعر بفجوة كبيرة إلى جواره، بفراغ، لدرجة أنه احتاج إلى كل قطعان أفريقيا لملئه، ولا شك أن ذلك لم يكن كافياً. يرى الرائد شولشر أنه "رجل أبيض أصبح مجنونًا بسبب كراهية البشر، فانحاز إلى جانب الفيلة" (صفة "مجنون" التي شاعت في قصة قصيرة لزفايغ تحمل الاسم نفسه، تشير إلى شخص يعاني من جنون قاتل وإلى شكل من أشكال الغضب الحيواني غير المنضبط، خاصة بين الفيلة). ويرتبط طموح وايتاري أيضًا بعزلته الوجودية.
فهذا النائب الذي لا حزب له، والمنقطع عن مجتمعه الأصلي بعد دراسته في فرنسا، يبحث عن معركة تمكّنه من ملء فراغ حميم: "كان وايتاري تحفة فرنسية [...] وكان طموحه مقياس عزلته".
وكما حدث لاحقًا في رواية "السيدة ل."، يحذر المؤلف من راديكالية المثاليين، الذين يجدون في قضيتهم مهربًا من ضعفهم. يرتاب غاري من المثاليين، خاصة عندما يضحون عن طيب خاطر بالأفراد باسم الإنسانية المجردة. وفي بعض النواحي، يذكرنا موريل بثوري السيدة ل. أرماند دينيس الذي كلّفته مُثُلُه الفوضوية حياته في نهاية المطاف.
موريل يخطئ بالإفراط في الثقة بالنفس. فكثيرًا ما ينسب إلى الرجال حسن النية الفطري دون أن يتساءل عن الجهل، أو الجشع، أو الفقر، أو الخوف الذي يشل حركتهم. "لقد وضع نفسه في موقف مستحيل.
لم يستطع أحد قط أن يحل تناقض الرغبة في الدفاع عن المثل الإنسانية في صحبة البشر". صيغة قد تبدو ميؤوسًا منها لولا كلمات بير كفيست، الناشط البيئي الدانماركي الذي علّم موريل معنى كلمة "إيكولوجيا". لذلك يتعين على بطل رواية "جذور السماء" أن يقيم توازنًا بين إيمانه الذي لا يتزعزع بالإنسانية وعناده الذي يقترن أحيانًا بكراهية للبشر التي لا تنطق باسمه.
إلا أن بطولة موريل تكمن في اختياره للفعل. فالمناضل السابق في المقاومة يرفض الاستسلام للسلبية أو العجز: فهو الوحيد القادر على إيقاظ الشخصيات الأخرى من سباتها، وهو الوحيد الذي لا يستسلم أبدًا ويكسب تعاطف الملايين من الغرباء من خلال نضاله.
إن شجاعته الثابتة تردد صدى كلمات أندريه مالرو الذي يمسح صفارات الإنذار من التشاؤم والعجز بإشارة من قلمه ويتغنى بالصمود الأبدي: "إن عدم وجود تفاؤل القرن التاسع عشر لا يعني أنه لم يعد هناك أي فكر إنساني! منذ متى كانت الإرادة قائمة على التفاؤل الفوري؟
لو كان الأمر كذلك، لما كانت هناك مقاومة قبل عام 1944. هناك قول مأثور قديم ومشهور: "ليس عليك أن تتفاءل لكي تقوم..." [...]. يجب إعادة تأسيس الإنسان، نعم: ولكن ليس على أساس صور من الماضي. إن أوروبا اليوم هي أعلى قيمة فكرية في العالم".
وبعيدًا عن العنف والخصومات القومية، تمكن موريل من إعادة انشاء مجتمع صغير حوله يحمل تعاليمه إلى ما بعد اختفائه. وهكذا قرر الرائد فورسيث ومينا الزواج من عزلتهما والاستمرار في الوفاء بالتزامات صديقهما. وفي نهاية الرواية، تبدو تربة تشاد القاحلة حاملة أملا جديدا؛ فالينبوع الجوفي الذي سبق أن ازدهر في رواية زولا، نجده هنا تحت رعاية مختلفة: فالرائد فورسيث، وهو يتجاوز كآبته الثملة، يشعر بـ " باندفاع هذا الينبوع القديم والصعب على نحو بطيء، مليمترًا مليمترًا " هذا "الينبوع الجوفي الذي عاش حياته الخفية في أعماق الجذور كان على وشك الانبثاق على سطح الأرض".
إن حالة الطوارئ البيئية على عاتقنا. لا يمكن لجيلنا أن يفسد ازدهار الربيع كما أعلنته خطى الفيلة المقتربة، وهو أجمل صوت على الأرض بحسب رومان غاري، شريطة أن نتعلم سماعه من جديد. من الآن فصاعدًا، يجب أن يكون التقدم موجهًا بالكامل نحو انقاذنا على نحو فعال.