شباب المسرح.. مسافة جماليَّة لرؤى جديدة

ثقافة 2024/05/15
...

  د. علاء كريم

تم تفسير ملكة الإبداع الفني لدى الإنسان، بأنها قوى غيبية وخرافية تساعده، بل توحي له وتملي عليه ما يجب فعله، كما تمتلك ملكة الإبداع في كتابة النص المسرحي قوة عقلية فكرية وشعورية وأيضا إرادية، فهي تعتمد أساساً لتفسير المظاهر الحياتية المختلفة، والتي تعبر عن الأداء عبر التفاعل مع جميع المظاهر. وترتبط قدرات الإبداع بالملكة عن طريق التفكير المستقل، وهذا ما يسهل عملية اتصال الإبداع بالمتلقي، لأن توليد الأفكار لا يكون إلا من صاحب الفكر المتحرر غير المحكوم بعوائق داخلية ذاتية، فمدركات وقدرات الكاتب لا تتبع غير الطريقة التي يكتشفها هو، ليكون تفكيره تلقائياً ويساعده على أن يرسم صور مختلفة المعنى بشكل غير قياسي، وهذا ما يكسب الكاتب القدرة على الابتكار بسهولة من دون استحضار أي نسخة فكرية متبعة لكل ما يتم التفكير فيه.

يرتكز الإبداع في كتابة النص المسرحي على العقل الذي هو مركز التفكير لدى الإنسان، فإذا كان العقل هو المصنع الذي يلتقط المواد الخام عبر قنوات اتصاله بالعالم الخارجي من (بصر، سمع، لمس، شم، تذوق) يختبرها ويحللها ثم يفرزها ويوزعها على خلايا المخ التخزينية، فهو إذاً منبع الابتكار والأفكار وعنصر هام من عناصر العملية الابداعية في الإنجاز.
وهذا ما تجسد في نصوص مسابقة الأدباء الشباب الدورة الخامسة – دورة الشاعر بدر شاكر السياب، والتي أقيمت من قبل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. إذ وظف الشباب الفائزين الثلاث "حيدر حسين، مرتضى عودة، حيدر عبد الرحيم" وهم من محافظة ذي قار، البنية الفكرية في النص المسرحي والانزياح إلى الواقع شكلاً ومضموناً، عبر تقديم أفكار اجتماعية تعكس مظهر الحياة المعاصرة ونوع مشكلاتها داخل حدود البيئة، وما تحمله من قضايا مصيرية لها ابعاد فكرية رغم معاناتها، ليخلق عند المتلقي استقراءً مغايراً يبحث بوساطته عن كل ما هو جديد، لإيجاد اللحظة الذاتية التي تمكنه من معرفة فعل معالجة المشاهد، فضلاً عن محاولة الوقوف عند الاحداث لتقييم التماسك البنائي للنص المسرحي مقارنة بالانعكاسات السلبية للواقع وبأسلوب نقدي يرتبط بالوعي الجمعي وما يحمله من مفاهيم ثقافية.
حمل نص "أمنية خرافية" للشاب حيدر حسين ناصر صورا تشبيهية يمكن لها أن تشكل مشاهد وصفية، فهو اعتمد التشبيه الواقعي الذي يرتكز على العقلانية التي تعتمد الوضوح الفكري والجمالي لفكرة النص. فبعد أن وصف المكان، سعى إلى رسم البنى الاستعارية، والأفعال التي تعاضدت مع التشبيه، ومنها "الغيمة السوداء، العمل الخبيث، المرض، الثدي، القنينة، الرزق، التوسل، الحرب، المطر، التطهير". مع كل هذه الأفعال هناك بيئة طبيعية يعيش فيها الإنسان، بنحو يمكن له أن يغادر الأمكنة المغلقة، ومن ثم نلاحظ التحول في خيال الكاتب، الذي التزم بقواعد التوازن، وتوظيف الأشياء بقيم جمالية حقيقية، بعيراً عن أقصاء أدق التفاصيل، ليتمكن بعدها من إطالة النص، لذلك وجدتُ أن الأفكار التي رسمت مجموعة الأفعال في هذا النص، هي ملامسة للبنية الاستعارية والكنائية التي اعتمدها الكاتب.
نص جميل يعكس أهمية وتفرد فكر الشاب، الذي سعى من خلاله لأجل الوقوف على آليات الخلق الإبداعي في مجال النص المسرحي، وحفر فيه بأمانة وثقة للوصول لمبتغاه، وذلك لأن الاهتمام بمجال كتابة النص المسرحي يحتاج إلى تناول المنجز بوعي مغاير ليعطي انطباعات وقراءات مهمة وضرورة أن تتواجد في الملتقيات والمهرجانات، ولتكون فرصة جيدة ومهمة لسماع صوت الشباب، فضلاً عن التعرف على مخرجات وفكر الجيل الجديد، والذي لا يقتصرعلى سن معينة دون غيره.
كما رسم الشباب مرتضى عودة في النص المسرحي "حرب غريبة الأطوار" رؤية اخراجية متكاملة، واسـتخدام مجموعة العناصـر وبشكل متناغم فيما بينها ليشكل منهـا نصه المسرحي وفقاً لرؤيته. وبما أن المسرح يحمل العديد من المفاهيم والقيم، منها الإنسانية والنفسية والجمالية والتي لها مساحة تنتج المتعة عند المتلقي عبر حرية التعبير والجرأة التي تشكل حافزاً لرسم الإبداع الذي ينتمي في الأساس إلى النص المسرحي وما يتضمنه من إعادة في تقديم الفكرة، ومن ثم البحث في آليات معالجة الحدث، مما جعله ذلك إلى أن ينزاح إلى اختلاف الفكر الذي يقدم عبره المعالجة الجديدة للنص، فالتجديد لا يعني كسر الثوابت، وإنما تقديمها في رؤى جديدة تخضع لقواميس المسرح وقضاياه المعاصرة.
ما بين غرفة التعذيب والتحقيق وصفارات الإنذار والرجل الملثم، هناك فتاتان ترتديان زيّ الشرطة، تقترب الفتاتان للقبض على الملثم، تنطفئ الإضاءة حسب وصف الكاتب، ثم تفتح الإضاءة الصفراء في غرفة التحقيق، ليكون الرجل على الكرسي مقيداً بالحبال. هذا ما قصدته عندما قلت أن المؤلف يمتلك رؤية اخراجية رسم من خلالها النص ومن ثم وظف عناصر تكوين العرض من إضاءة واكسسوار، تبين طبيعة الظروف المختلفة والتحولات الحياتية وشكل المعاناة التي يمكن بوساطتها استحداث وتطوير عدد من الرؤى، بالتزامن مع متغيرات الفترة الحالية، لأن المسرح يحمل في طياته مشاهد ومعانٍ متنوعة، يعرضها الكاتب في المسرح وتوجه للكبار والأطفال، وفي عملية إنتاج المعنى وتوظيف الصورة, يفترض وجود رؤية تحدد تفعيل العناصر التي تدخل في تغيير الخطاب البصري المستنبط من خطاب النص.
حمل نص "حرب غريبة الأطوار" مجموعة رؤى، منها ما يلامس الواقع وما يمر فيه الإنسان من معاناة، وآخر تجسد في الحياة الافتراضية التي رسمها مرتضى عبر عدة التعذيب والفلقة ومقص قلع الأظافر، والسخرية التي ظهرت على الرجل الملثم المتهم بأنه آخر رجل في العالم. حاول المؤلف أن يوجه خطاب النص على وفق البنى الدرامية التي ترتبط مع لحظة الإبداع، وأيضا مع مساحة التفكر الجمالي الملامس لمجمل حواسه، ليجسد التجليات ما وراء الأشياء والأحداث، وبالتالي قراءة الجوهر المستتر في مظاهر وجود الواقع اللامرئي. "الحروب، الدمار، التلوث"، كل هذا من صناعة الإنسان، حسب رؤية المؤلف الذي ينتقل بعدها إلى مساحة مغايرة عبر توظيف فعل السلام عندما يظهر رجل وفي يديه باقة ورد، وفي يده الأخرى خاتم الخطوبة، ليسمع وهو في الطريق صوت دويّ انفجار وصراخ نساء ورجال وأطفال. يحزن على قتلها ويقول لم تقتل هي فقط، بل قتلت كل أحلامي وحبست انفاسي. يمثل هذا النص قدرة الكاتب على الإبداع الذي لا يقتصر على مساحة محددة، بل أن الحياة هي الطاقة الإبداعية والتي نستلهم منها الأفكار.
ويبقى النص المسرحي "خراب بيوت" للشاب حيدر عبد الرحيم له خصوصية لما يمتلكه من بعد بايولوجي يشتغل على سلوك الفرد في الجانب الاجتماعي، وينظم الأفكار لتظهر في بناء جديد، انطلاقاً من عناصر إبداعية موجودة في نمائها وانتمائها الإنساني.
"خراب بيوت" حكاية زوج مع زوجته، يفرض الزوج عشقه للموسيقى وانشغاله بالألحان ومنها التراثية، وعنده كل الاشياء هي بطعم تلك الألحان، حتى الطعام، وهذا ما دعا الزوجة إلى التذمر من طبيعته وسلوكه، هي تريد أن تشعر بأنها زوجة لها حقوق عليه، وهو بعيد عن هذا الشعور نهائياً. هنا بدأ الصراع الذي من خلاله انطلق الكاتب للوقوف عند صراعات اجتماعية تصبح مضموناً للعمل الإبداعي، وكما يؤكد "فرويد" بأن الصراع هو منشأ عملية الابداع.
في النص حوارات تعكس الواقع الحياتي الذي نعيشه، إذ عمل حيدر على إظهار فعل "الكبت النفسي" عبر استهجان الزوجة من رد الزوج! تطلب منه أن يخرج معها، لأنها لم تخرج منذ مدة، يجيبها الزوج بأن هذا الوتر مناسب، تحاول أن تذكره بأن هذا اليوم مختلف "ذكرى زواجهما" فعلينا أن نخلق يوم مختلف، يرد عليها أنا كل يوم أخلق لك جواً مناسباً، وأي ليلة هذه التي أوجعتي رأسي بها.. وهكذا يستمر الحوار.
لكن وبذكاء من الكاتب، طلب الزوج يلعبوا مع بعض؟ ذهلت الزوجة! وبعد إلحاح وافقت، واللعبة هي أن يتبادلوا الأدوار، يكون هو الزوجة وهي الزوج! يقوم كلّ منهما بتقمص شخصية الآخر، مع تغيير الملابس والباروكة. في النهاية تعيش الزوجة هذه الشخصية وتكون هي المسيطرة، يقول لها الزوج كنا في لعبة، لكنها لم تبالِ له وتقول له، "لقد انتهت اللعبة"، وتصرخ لا أريد الخروج، سأكمل مراحلها بفرح.
وفي هذا الحوار، قد تتطابق رؤية المؤلف والقارئ في التعبير عن هذا الكبت الذي يصنع هماً مزدوجاً. لا سيما إذا كان الصراع مشتركا بين المبدع والمتلقي، فهذا الصراع الذي ينتج من عمليات ذاتية أي الشعور واللاشعور والانا الأعلى، بالتالي، هناك مجموعة العوامل التي تحيط بالكاتب وتجعل من خبراته السابقة المتراكمة مصدراً داخلياً للتعبير والتصوير.
تمثل النصوص المسرحية الثلاث التي تم تناولها، رؤية أولى للمعنى، الذي يكّون منه القارئ منظوراً يتحرك فيه عبر الموضوعات لأجل التأويل، كما أن المسافة ما بين النص وبين القارئ تعد مسافة جمالية لأنها تشكل استجابة مركزة للطرفين من جهة، وتغيرات ظرفية للآفاق المتوقعة بينهما من جهة ثانية، وبذلك ينتج عبر هذه المسافة وفرة من المتعة التي تضفي على الإنتاج فعلاً ابداعياً وحساً جمالياً وتطهيراً للقارئ من التدخل والمراقبة لإنشاء هدف جمالي.
وعليه، يجب أن توثق هذه الأعمال عبر النشر أو تطبع في كتاب، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب ضرورة التسويق لتلك الأعمال المسرحية.