محمد صابر عبيد
يحتل الفن القصصيّ موقعاً مهماً في دائرة الإبداع الأدبيّ -عالميّاً وعربيّاً-، وكان له دور كبير إبان انتعاشه في أوروبا على يد أمهر القصاصين الذين عرفهم تاريخ هذا الفن، وحين تأثر القصاصون العرب بالفن القصصيّ في القرنين الماضيين؛ تشكل في ساحة القصّ العربيّ فضاء مشابهاً لما حصل في الغرب على صعيد العناية به، والمضي في توسيع حجم إبداع وانتشاره وتداوله إلى أبعد حدّ ممكن، وظل هذا الفن مهيمناً على الذائقة العربيّة الأدبيّة حتى انطلق الفن الروائيّ انطلاقة أشبه بالثورة العملاقة في مسار السرد.
فطغت الراوية ليس على القصّة فحسب، بل على الفنون الأدبيّة وأجمع وجعلتها تنحسر أمامها، على الرغم من وجود قرابة سرديّة كبيرة بين القصّة والرواية غير أنّها لم تشفع للقصّة، وقد وضعتها الرواية في ركن شبه مهمل مستغلّة كلّ أدواتها بعد أن كيّفتها لتستجيب لأسلوبها وفضائها السرديّ الخاصّ.
من هنا ظلّ هذا الفنّ القصصيّ في زمن الرواية الطاغي محصوراً في زوايا ضيّقة لدى عرّابين أصلاء، سعوا إلى الحفاظ على أدوات هذا الفنّ ورعايته وإدامة هواء الإبداع ومائه كي تصل إلى جذوره العميقة لأجل أن لا تموت، فأدواته هي الأصل في بناء العالم السرديّ الخاص بهذه التجربة الكتابيّة الأصيلة؛ التي ما زالت تصنع نصوصها بأعلى قدر من العناية والتأمّل والصبر والانتظار والجديّة والجدوى، وتطوير الأدوات من الداخل للتأثير في حركة المهارات الاستثنائيّة التي لا يتحلّى بها نفر قليل من أمهر القصاصين، وهم يتحصّنون ببركة هذه الأدوات وقيمتها الفنيّة والاعتباريّة بوصفها سلاحاً جماليّاً لا يمكن التخلّي عنه تحت أيّ ظرف، ومهما علا صوت الرواية وطبق الآفاق بإيقاعه الضارب في مساحة التلقّي العربيّ على أوسع نطاق.
يعني مفهوم "الأداة" ما يمكن أن يحيل على دلالة الوسيلة التي توضع في مسارها الصحيح كي تًوصِل إلى المقصد، لذا على هذه الأداة أن تتحلّى بكلّ ما من شأنه أن تكون في أعلى درجات كفاءتها وقيمتها وأصالتها، لأجل أن تكون مستعدّة لتقديم أداء نوعيّ يرتفع إلى مستوى المهمّة الموكلة إليها في أيّ مجال من مجالات الحياة، وحين يكون هذا المجال خاصّاً بالتجارب الإبداعيّة على وجه العموم؛ والتجربة القصصيّة على وجه خاصّ، فإنّ هذه الأداة ينبغي أن تكون ذات صلة وثيقة بطبيعة الفعاليّات السرديّة التي يحتاجها النصّ القصصيّ، وأن تكون هذه الأداة مشحوذة جيّداً كي ترتفع إلى قمّة الأداء الإبداعيّ الخلّاق في السبيل إلى إنتاج قصّة قصيرة قادرة على الإبهار والإدهاش داخل مجتمع التلقّي.
تتحرّك أدوات الفنّ القصصيّ حول التجارب القصصيّة في ديناميّة تدرك نوعيّة الأداء -الواجب تفعيله وتوظيفه والإفادة من معطياته-؛ كي تتمثّل فعالية المهارة القصصية في ميدان الأداة والتشكيل والعلامة، إذ تقف الأداة في مقدّمة المهارات الفنيّة ذات الطبيعة الجماليّة الفاعلة والمنتِجة بالنسبة للفنّ القصصيّ؛ فمن دون معرفة أكيدة وعميقة وواسعة وتفصيليّة بالأداة وحاجاتها وطبيعة اشتغالها في الميدان؛ لا يمكن لأيّ كان "من صنّاع القصص" إنجاز قصّة ناجحة تتوفّر على عناصر التشكيل الكفوءة، لما تقدّمة الأداة من فاعليّة جوهريّة وحقيقيّة على صعيد بناء فضاء قصصيّ وافٍ ومكتمل؛ يسهم في تشكيل القصّة القصيرة وفرضها على الوجود السرديّ وإلهاب حماس التلقّي لأجل استقبالها.
تبدأ عن طريق فعاليّة الأداة أولى بوادر الحساسيّة السرديّة للقصّة بالتكوّن والتشكّل والتمثّل؛ في حركيّة تسريد حيّة للتجربة تتمكّن من امتصاصها وتحويلها إلى سرديّة متألّقة في أكثر من سياق، بالمعنى الذي يجعل من الأداة الفاعلَ الأكثرَ إسهاماً في توفير أسباب قادرة على صوغ شعريّة القصّ بأعلى مستوى ممكن، يتيح لفضاء التلقّي في طبقاته المتعدّدة الإمساك بالنسغ الحيّ الذي تتحرك القصّة بموجبه، داخل رؤية متكاملة تحتوي التجربة وتتمثّلها وتعيد إنتاجها جماليّاً؛ وتقدّمها على النحو المطلوب والمثير والمحتشد بالجمال والفنّ والقدرة على إدامة التداول نحو أوسع مساحة ممكنة ومتاحة.
تعمل الأداة جاهدة للوصول إلى مرحلة التشكيل القصصيّ؛ بكلّ ما تنفتح عليه هذه المرحلة من مسارات ومساقات ومساحات إبداعيّة سرديّة، ولا يمكن أن يصل الشغل السرديّ القصصيّ إلى مرحلة التشكيل إلا بعد أن تنشط الأداة في أعلى درجات عملها، بحيث تصل إلى طبقة التشكيل وهي تسير في الطريق الصحيحة من غير مصدّات بوسعها أن تربك هذه الفعاليّة، لأنّ مرحلة التشكيل هي مرحلة تأسيسيّة حاسمة على مستوى الفنّ والجمال وتحقيق التداول، بوصفها المرحلة النصيّة الأخيرة التي تجد القصّة القصيرة فيها ذاتها السرديّة وقد اكتملت في دائرة فنيّة وجماليّة شديدة الخصوصيّة؛ وصار بوسعها مواجهة مجتمع التلقّي باستعداد كفوء وثقة عالية بما تركته فعاليّة الأدوات من حسّ سرديّ أصيل ومدهش.
تتجلّى العلاقة بين النصّ القصصيّ -في حالة اكتماله التشكيليّ-؛ ومجتمع التلقّي ضمن بروتوكول عالي التبادل والتداول والتفاعل، حين يتحوّل النصّ بعد مرحلته هذه إلى "خطاب" يبحث فيه عن القارئ؛ الذي يعدّ العامل الأبرز والأكفأ في بعث الحياة السرديّة داخل طبقاته، وهذه المرحلة "مرحلة الخطاب" هي المرحلة التي يتقدّم فيها المنهج لفحص البعد الجماليّ القصصيّ، وتشرع العلامة بتمظهراتها السيميائيّة في تنسيق إجراءات العلاقة الداخليّة بين القارئ والخطاب النصيّ؛ لاستكشاف حيويّة القصّة القصيرة وجوهريّتها ومدياتها الجماليّة القادرة على إنجاز التنوير السرديّ المطلوب، لتكون نقطة الشروع في بلوغ طبقة التفاعل القرائيّة ذات الجدوى بين الخطاب القصصيّ والقارئ.