ظلٌّ يحفر في طبقات النّفس

ثقافة 2024/05/16
...

  نصر سامي


كتبت رّواية "ظل أعرج" للروائية التونسية زهرة الظاهري وهي تستبدل الحاضر بمواقيت قديمة راسخة وضاغطة وموشومة في الجسد والرّوح، وتستحضر الأقفاص التي عاشت فيها لسنوات "العائلة، المدرسة، المجتمع"، وتستقرئ رحلة الطائر الذي فقد بمرور الوقت جناحيه، ولكنّه لم يفقد حلم السّفر أبدا. وهذا النصّ طازج، مليء بالحياة، مقتطف من حقول النّفس، فيه جلاء وصدق وصراحة نادرة، ولكنّه يقع تحت سيف الخوف والاخفاء وسلطات المجتمع.

تتوسّل الرّاوية بفنّ المذكّرات، وتفتح في الفصول المتتالية مساحات سرديّة من حياتها بعد تصفيتها بمصفاة الحزن، تزيل منها أمورا هي من صميم السّرد، وتقع فقط على "النقاط الكبيرة"، حيث يتلبّس بها حزن بلا قلب، وتصفو نفسها، وتتجلّى انفعالاتها، وتنزوي بعيدا عن قرف الحياة وآلامها.. تتأمّل ما حدث في محاولة لاستقراء كفوف الغد وما تخفيه.

نتساءل، ونحن نقرأ، هل هذا الكتاب سيرة؟ أم رواية تئنّ تحت سيرة صاحبتها المتعبة بتفاصيل الماضي؟ أم هو خطاطات أصليّة عميقة لعمل سردي سيري ماثل بتمامه في ضمير الكاتبة؟ هذه الأسئلة تعني أنّ هذا الأثر واقع تحت ثقل فكرته المسبّقة وتحت الغاية التّي وضعت له مسبّقا، وهي أن ينكأ الجراح التّي لم تبرأ، ويسدّ أودية الوجع التّي لم تتوقّف، ويطهّر أثر اليد الطولى للأب التّي لا يزال وقعها غائرا في النّفس. لكنّ الكتاب ليس هذا فقط، بل لحظتان هما عمر الكاتبة، لحظة القول المشروطة بشروط العائلة وطبيعة الوضع الاجتماعي وما يقال وما لا يقال، ولحظة التذكّر النّابت في الحاضر مثل نصل صدئ، والمؤثّر في كلّ السّرد السّابق واللاّحق.

هناك حزن وهشاشة تعود إلى طبيعة القائم بفعل التذكّر، وهو غالبا الكاتبة في لحظتها الحاضرة، الكاتبة التّي تتقمّص دور الطّفل الذّي كانته، وتحاول أن تستعيد اللحظات كما حدثت لها بالفعل، ولكنّها فجأة تنقلب إلى لحظتها الحاضرة، فتسردها بوعي غاضب رافض، معبّرا ليس فقط عن طفولة لم تعرف الفرح، بل عن حاضر يشقى بأسئلته وبمآلات حياته وحياة مجتمعه. 

مأساة بطلة الكتاب هي شعورها بالاختلاف عن العالم الذّي أفاقت فيه وعاشت زائدة عن الحاجة في مجتمع ذكوري قاس فقّرته دولة الاستقلال حتى أصبحت فيه الحياة سجنا حقيقيّا, أو سجنا من دون أسوار، تولد في داخله طفولة آسنة غريبة مندفعة نحو أيّ فرح أو نجاح ممكن، لمجرّد الخروج إلى العالم الخارجي. ولكن هل خارج العائلة العالم أفضل؟ هيهات! على العكس، لقد وجدت الكاتبة في الحياة ما هو أصعب من الجبل، ورأت سهولا قاحلة جرداء في سيدي بوزيد، من قبل، لكنّها تعلّمت في السهل والجبل أن تصارع وتعاند، وأن تلاحق قدرها بإصرار.

والكتاب حكاية تشبه أيّ حكاية، عادية إلى حدّ بعيد، تشبه حياتنا التّي تمرّ في الظلّ، ولا تترك أثرا. لكنّ البطلة وقفت لتتأمّل ما حدث مستعيدة الأثر الباهت الذّي لا يزال موشوما في جسدها وفي رأسها، وقد أمسكت الخيط الناظم لكلّ ذلك الشتات وهو خيط الكتابة، ومنذ اللحظة التّي قرّرت فيها أن تمتلك مرآة، وترى وجهها، إلى اليوم، صارت الكتابة قماشة وجودها الحقيقي وريشتها التّي تنكش بها كلّ الجراح.

هذا الكتاب واقع أيضا في مدار التردّد والحيرة والشكّ، كتب من دون تخطيط، فالكاتبة لا تثق كثيرا بالمخططات! تخاف أن يتشوّه ذلك العالم الطفولي السّاكن في ضميرها مثل بحيرة نرسيس، تخاف أن يتلوّث بإرادة الكاتبة الواعية، لذلك كتبت بإحساس الطفلة المنكسرة، لكن تلك الرّوح البديعة العفوية الطازجة لا تستمرّ، بل تظهر في آخرها دائما تلك الرّوح الثانية الواعية روح الكاتبة لتؤوّل أو لتستنتج أو لتحكم أو لتحلّل أو لتشكو أو لتقيّم، وهي في كلّ ذلك تمعن في الوصول بلحظة القول الأولى الطفولية إلى الغاية المحدّدة لكتابها قبل الكتابة وهي تصفية الحساب مع الجميع. وما يبتنيه الطفل من أدب فيه روائح الجنّة كثيرا ما تطمسه يد الكبار العمياء! وهي نفس حكاية البنت مع والدها، فلطالما حلمت بعالم مختلف ولكن عالم والدها الذّي عاشته لم يكن رفيقا بالصغار، وخصوصا إن كانوا من البنات.

وهو كتاب صعب، لأنّه يسمّي ويفضح ويحفر في الطبقات العميقة للنّفس وهي تصعد السلّم الاجتماعي درجة درجة، وتكشف عبر مختلف درجات تشكّل وعيها عوائق الذّات بدءا من السلطة الأبويّة الشرقية وما فيها من تمييز للذكر وتهميش للأنثى، وما يحيط بها من عقليات بالية. وصولا إلى ذلك الكنز الضّائع المسفوح في خلاء المشاعر والتجارب وهو الطفولة والصبى الأوّل الذّي تتلقّفه الكاتبة وتحميه وتسوّره بكثير من العطف والحنوّ والأدبية باعتباره الشيء الوحيد الذّي حماها من الضياع مثل عشرات البنات في جيلها، وخلال ذلك تعرّضت إلى واقعها الصّعب لكنّها مزجته بمسحة حلميّة مجنّحة حالمة لكن بهشاشة فراشة، إذ كان الواقع المرّ يستعيد دائما فضاءات التخيّل كلّها، ولكم تمنّيت لو طالت تلك اللحظات، ولكنها لم تطل لأنّ اللطمة والارتطام بالواقع كانت تختم أغلب المشاهد.

وتظهر في الرواية أسماء هي عندي لبّ هذا العمل السردي وعطره وهي أسماء كثيرة مثل الجدّة عيشوشة ومثل الصديقة هادية ومعهنّ تضمّن الكاتبة أثرها أمورا تدلّ على تطوّر وعيها وفهمها للعالم الذّي يحيط بها، إذ طرحت قضايا على درجة كبيرة من الأهمية مثل الحبّ والخيانة والعلاقات العاطفية وأوّل تجارب المطالعة في بيئة لا تحفل بالكتب ولا بالكتّاب. وتتعرّض ضمن عرضها لحالات الاستلاب الأنثوي في واحد من أهمّ فصول الكتاب إلى كلبتها وما تعرّضت له باعتبارها أنثى من عذاب في بيئة لا تهتمّ بغير الذكور، ولقد أحسنت الساردة نسج فصلها ذاك وجعله شديد التأثير والإقناع، ومع هذا كلّه تحملنا الكاتبة بعيدا عن كلّ ذلك الشقاء إلى الكتابة، الكتابة التي هي عندها صراخ مكتوم، وعويل مخبأ تحت ركام رماد قديم يسوّر النّفس بسور الوهم، والحقّ أنّ هذا الخيط في الرواية خيط التمسّك بالحروف والخطوط هو ملمح أصيل في الرواية ومكتوب بمتعة ورهيف ومحبّب، إذ أنّ اللغة حملت طيلة سنوات صراخها وأنينها وحنينها وخوفها ولحظات فرحها القليلة، ولم تخنها أبدا.

لا أريد أن ألخّص الكتاب، ولن أفعل! ولكنني أستعيد شكل الطفلة وقد كبرت، ولكم تمنّيت أن تظلّ صغيرة، وأن يظل سردها سردا بعيني الطفلة، ولكنها للأسف كبرت، وكبرت لغتها معها، وكبرت أحلامها، وكبر وعيها، وصار حادا كنصل سكين، وزادت أحزانها، وهنا حضر الموت حضورا طاغيا، فحمل من ضمن ما حمل الأم الثانية، وما كانت تعنيه لدى الكاتبة التّي تجتاز وقتها امتحان البكالوريا، ولقد حفلت الرواية في مواضع منها بحوارات ناعمة وتأملات شجية وعواطف متدفّقة، لكنّها تنتهي كلّها فجأة، ويتلوها ألم حاد مزعج. ثمّ تنفتح الرّواية على الراوية التي كانت طفلة وقد تركت طفولتها وراءها وشقّت غمار الحياة العملية.

حملتنا السطور إلى ماضينا المشترك، فأنا أيضا عشت في بوادي سيدي بوزيد، عشت مثلها عيشة صعبة، ومثلها أخذتني الكتابة من يدي لأجتاز الدروب الصعبة. ومثلها تتراءى لي قصّة نجاحي في الخروج سالما قصة استثنائية، ولكن هل خرجنا حقّا من ذلك البؤس، وتلك القسوة؟ هل نسينا فعلا الأب وصورته القاسية ونحن نعيد حياتنا مع آباء أشدّ قسوة وأكثر فسادا؟ هل نجحنا فعلا الخروج بالطفل فينا من مستنقع التهميش والنّقص والخوف والإلغاء، وحمله إلى فضاءات الألفة والحرية والاختيار الحسن؟ هل استطعنا وقد كبرنا أن نتمسّك بطفولتنا وأن نحميها من الزوال؟ لا أتذكّر ما حدث مثلما تتذكّره زهرة، وأعتقد أنّ ما قامت به هو عمل شجاع وعميق وعلى درجة كبرى من الأهمية، أنّها أدركت أنّ مشكلة كلّ بوزيدي، ومن ورائه كل تونسي، تكمن في صباه الأوّل، هناك حيث زرعت كلّ البذور الفاسدة، وحيث حقنت الرّوح بشوك الآلام وزهورها المتقرّحة.