طالب عبد العزيز
على بابٍ تزيده رائحة الدهان طراوة وجدة، ولم يتمكن الدهرُ من كتيبته، فهي حية، يزينها الزخرف العثماني قدماً، وعلى الجادة الضيقة بسوق كاظم آغا، حيث لا يبعد النهرُ كثيراً، خط أحدهم لوحة تقول: {ستقوم السيّدة بهيّة، والحسناء نحيلة، والسيدة ولقا بإحياء ليلةِ طرب على مسرح مقهى المعلقة بالبصرة- لم يذكر صاحبه- ليلة الاحد الموافق 29 كانون الأول، على أن تكون واردات الليلة البديعة هذه إعانة لتذكار العقيد السير (ستانلي مود) لذا، ندعو أسيادنا الكرام، من البصريين، أصحاب الشرف والمعالي إلى زيارة المحل،
ليشاهدوا ويشهدوا معنا الليلة هذه، وكلَّ ليلة ابداعَ السيدات في المَغنى، وما يصاحبُ ذلك من الرقص والغنج والجمال، وبما تنشرح له قلوبُهم، طربا وسروراً" كان ذلك بعضَ ما نشرته جريدة الاوقات البصرية في عددها 41 من المجلد العاشر في 28 كانون الاول سنة 1917. كانَ النخلُ ما زال أخضرَ في الموقع الذي أقام الجنرال مود مستشفاه.
لهذا كان لزاماً على العلامة رينهارت دوزي (هولندا1820 ـ 1883) أنْ يقول بأنَّ أهالي البصرة رجالا ونساء كانوا يلبسون البرفكان، وهو اِزار أو كساء جميل، يُلفُّ به الجسم، وكانت مفارش بيوت أكابرهم وتجارهم من الحرير، ويحشون وسائدهم بالريش. وفي المدينة سوق يردُها العاج، وريشُ النعام والطواويسُ من زنجّبار والصومال، وفيها تحفٌ محنطاتٌ،وملصّقات بانواع الغراء، لمخلوقات يؤتى بها من أفريقية، وأنَّ الحاج محمد المرجان وحاجي صليوا والحاج مبروك والحاج الماس هم تجارٌ أفارقة، سكنوا البصرة، ويقيمون الآن بفندق في سوق كاظم آغا، لم يكتب عند مدخله عبارة (ممنوع إدخال الخمور). كان حسين عبد اللطيف، الشاعر هو الذي أخذني إلى بيت صاحب كتاب (البصرة في العصور المظلمة) حامد البازي ( 1920 – 1995) البيت كان بعضاً مما لم يتهدم بعد، من بيوت ومحال وفنادق سوق كاظم آغا، لكنَّ الغبار الذي على كتبه، والسدارة الفيصلية التي يعتمرها البازيُّ، والعصا الخيزران المركونة خلف الباب، ورأسَ الوعل المنحوت أعلى كتيبة باب البيت أخذتني إلى هناك. سأكون مضطراً إلى أنْ أجرجرَ روحي بحبلَ الزمن، وأطوي المسافةَ المفترضة في الرؤيا، لا لأدخل مقهى المعلقة، التي بسوق كاظم آغا- محلة السيمر اليوم- ولا لبيت حامد البازي، ولن أنتظر حتى يبدأ حفل السيدات الجميلات، أبداً.. إنّما لأتصفح ألبوميْ الصُّور التي اِقتناها أحدُ البصريين من المزاد العلني، الذي أقيم في مدينة مانشستر، بلندن، وأطالعَ فيها وجوه راقصات ملهى الفارابي، لصاحبته مدام ليزا، الصور المودعة في الزمن إلى ما لا نهاية، والتي لا تشيخ، فما العام 1955 بأكثر من أسابيع نعلقها في روزنامة على حائط ونغفو عنها. كانت الصورُ تركةَ رجل بريطانيٍّ، لعلّه كان ضابطاً نزعت الملكية ألقابه، أو رجلَ أعمال خاسر، وربما بحّاراً تحطم مركبه، أو جاسوساً افتضح أمره ... من يدري؟ لكنْ، المؤكد أنَّ أحدَ أبنائه لم يجد ضيراً من بيعها. كانت صورُ الراقصات تتقدم لوحة ملهى الفارابي بأمِّ البروم، أنا أيضاً شاهدتُ عين اليافطة تلك، منصوبةً في الشارع، الذي لا يبعد عن المبنى الحكومي كثيراً، ويقابله مركز شرطة العشار. ولأنني نداءٌ مطلقٌ في الزمن لنْ أدع ذاكرتي خارج المشاهد تلك، أريد أن أكون هناك، فأنا من اصطحبني الشاعر جمال مصطفى في العام 1976 ودخلتُ معه ملهى النَّصر، التي بشارع الوطني، لصاحبته فريال صدقي، كنا ثملين بخمرة الشعر والشباب، لذا، سارعنا واتخذنا مجلسنا لصق المسرح، المضاء بعشرات المصابيح، فالفرقة أرجنتينية، والراقصات شقراوات، طويلات، وبتنورات لم تكلفهن قماشاً كثيراً. ما كنّا قد سمعنا بجورجي لويس بورخيس آنذاك، حتى نخجل من عينيه المطفأتين، في مكتبة بيونس آيرس، ونحن نعاين بنات جلدته، .. لذا، تطاولنا، ومددنا بأعناقنا، متصفحين قراطيس الاجساد تلك، ولما لم يبق من الفجر إلّا رسمةٌ في الشبابيك، صرنا إلى المسرح راقصين، صارخين معهن. كنّا قصاراً، قصاراً جداً، وأنوفنا أدنى من صدور الراقصات بكثير. لم تبتدع مدام ليزا وفريال صدقي ولا السيدة ماري أمراً حين أمرنَ مغنيات ملاهيهنَّ الحلبيات ألّا يغنين وهن ثملات، وأنْ لا يومئن لأحدٍ، لكنْ، قلنَّ لهنَّ: ليكن طريقكن إلى المسارح يمرُّ بمقهى عبدالله، التي تؤتى من ثلمة بسوق الهنود، حيث يتخذ شعراء القرى مجالسهم هناك، وهكذا، ظلت الباص بمقاعدها الضيقة تأخذهن قبل مغيب كلِّ شمس في البصرة وتعود بهنَّ قبيل أفول كلِّ قمرٍ فيها بساعتين.
في المدينة التي مازلنا على بأسواقها يأتي السماسرةُ بالراقصات والمغنيات، ويجلب التجّارُ الاقمشة والنيل من الهند، ويجيئ الهولنديون بالتوابل، ويأخذ الانجليز الملح، وتدخل مكائن الطباعة والغرامفونات من برلين، ويقصد التّجارُ الموصل وبغداد وديار بكر وحلب وتزداد الطلبيات على التمر البصريّ، كان مأمورُ الجمارك فيها قد أحصى عدد السفن التي بشطها سنة 1652 فبلغت 400 سفينة.
ومثله كان ابن سوار قد أسس مكتبةً رتَّب فيها معاشا للعلماء العاملين عليها، كذلك فعل القاضي ابو الفرج ابن ابي البقاء بمكتبته، التي حوت نحواً من خمسين الف مجلد، أما مالك بن ابي السمح فهو الذي أسس المدرسة البصرية في الغناء. كانت البصرة بنت القرن الرابع للهجرة.