ميثم الخزرجي
إن الرؤية التي يتخذها الفلاسفة والمشتغلون في حقل المعرفة حيال التعاليم والسنن اللاهوتية نظرة واضحة وجادة في كثير من متبنياتهم الإشكالية ومحاورهم الجدلية التي تعنى بالكائن البشري وغرض وجوده في هذا العالم الفسيح، بل أنها تقاضي الحتمي والمتوارث والمسلّم به على وفق معايير قيمية دالة تسعى أن تفكك كثيراً من المضامين الممسكة بمقدّرات الإنسان ومصيره لا عن طريق البطش والمناورة التي لا تنم عن دراية، غايتها التقليل والتعتيم الكلي على قوانين أحاطت بالغالبية من البشر.
ولعلي أجد أنها إشارة إلى إعطاء زمام الأمور إليه لأن يدير شأنه من دون وصاية من أحد، بعيدا عن إشراك الآخر بل حتى العاطفة التي تقلّل من دور العقل وتحجّم ماهيته، ليكون هذا التنديد ناجم عن استقراء مفاهيمي هدفه انحسار طبيعة الغيبي والإشادة بالعقلاني بدلاً عنه، وقد نشب أصل الحراك المعرفي هذا منذ هرقليطس وما جاء بعده من الفلاسفة الثلاثة "سقراط، أفلاطون وأرسطو" مروراً إلى نيتشه الذي تعالت نظرته حيال التصعيد بدور الإنسان السوبرمان أو الخارق الذي ركل جميع القيود التي تحطّ من قدرهِ ليرسم مساره الحياتي بنفسه، وهذه الاعتبارات القيمية لها تأصيلها على السياق العام للمجتمع وطريقة تصرّفهِ واستفتاء مقرراته وقد أوكل ماركس اهتماما اعتباريا مثيرا للإنسان من أنه أثمن رأس مال والحقيقة الفعلية التي عن طريقها تتم عملية الخلق الديالكتيكي والتحرر والابتكار، لذا فإن مفهوم التبعية بجميع سياقاتها تجعل الإنسان كالدمية ليتعين مصيره عبر لوائح صارمة غير قابلة للتمويه والمخاتلة كونها تنتهج منهجا فوقيا، لتكون الطبيعة المعنية له متذبذبة هيابة في جميع مفاصلها، وقد أشير إلى أن هذه الرهبة هي المفتاح المهم لتحريك الساكن وحسبي أن هذا الساكن يحتاج إلى ذهنية ذات فاعلية مؤهلة لاستنطاق الأسئلة المتراكمة لنقرر أن تحشيد السلطة النسقية المتوارية وإثارتها بصورة حقيقية قادرة على تغيير المسار المهيمن على سلوك الإنسان وتداعياته القيمية والأخلاقية في حال لو تمادت هذه السلطة وكسرت المحاذير بخروجها إلى العلن.
واقعا، أجد أن نزعة الخوف والشك والكثير من السمات التي تشكّل ماهية الإنسان وهويته الحسية تولد معه وتنشأ مع تكوينه السيكولوجي مستمدة إثارتها من هاجس المكان والمستجدات المصاحبة لديمومة الحياة وما تتخللها من أزمات أثنية أو ملابسات سياسية تعنى بمصيره مؤثرة على سياقه العام من حيث التصرّف والقابلية على استيعاب مخاضات الواقع والسعي وراء الحقيقة من جميع الاتجاهات، بقي لنا أن نبيّن طبيعة المؤثر الفعلي والمسبب الناجم للمحرض على السؤال، في البدء بودي أن أنوه إلى مقولة نيتشه (على الإنسان أن يكون في خطر دائم) وهذه دلالة على الخطر الساعي للمعرفة، التي بدورها تشكّل حلقة جدلية هامة بتغير الاتجاه الفكري له، فلو تتبعنا ذلك سيتجلى لنا أمران هامان لهما نتائجهما المؤثرة على تهيئة الإنسان وترميمه الابستمولوجي، الأول، هي الظواهر الطبيعية المصاحبة للمناخ كالرعد والأمطار والعواصف وحلول الليل والنهار ومنظر الأجرام السماوية وتوابعها وكلها مدعاة للخوف والسؤال، وقد نجد كثيراً من الأساطير قد استمدّ نظامها القيمي من جريان الماء و تقلبات الأنواء الجوية، لذا سميت الكثير من منها بأسماء آلهة وهنا نستبين الريبة التي استقلت هاجس الإنسان لتصبح فيما بعد منظومة مرتبطة بصيرورته وطريقة تعاطيه مع الواقع لتصيغ جزأ عظيماً من مقدراته وعلاقته بالموجودات ليتماهى السؤال المنظوي عن ماهية هذه الموجودات مع نسق الخشية وقد يتفوق عليه إمعانا لقوة المعرفة الجادة التي تستكشف الما حول وتستفهم عن أشيائه، ليكون الهاجس النفسي هو العتبة الأولى للفهم ومشكلاً للوعي باعتباره سلطة محرضة فيما بعد، لذا نجد أن الخشية المضمرة هي النسق المقترن بطبيعة السؤال لتتمكن من تحديد منسوب الوعي ومدى استجلاء الحقيقة الدائرة في هذا الكون، وعلى مدار آخر للمعرفة وكيفية استحصالها، أنوه إلى الطرح الذي تبناه أصحاب المدرسة التجريبية (بريكلي، جون لوك، هيوم) بأن المعرفة تأتي عن طريق العادة أو التجربة التي تمرّن الذهن على سياق معين ليكون الإحساس بالموجودات فطرياً وقد يؤسس الفرد عبر هذه الفطرة وعيه، مشيراً إلى حالة الإنسان البدائي وطريقة تعاطيه مع مجريات الواقع.
الأمر الآخر في ماهية تشكّل المعرفة بعيداً عن السلطة النسقية هو الوعي المكتسب عن طريق البحث والتنقيب المؤهلان للدرس، وهذا الاستقراء الفكري لا يخلو من الشعور بالخوف لكنه الخوف من النكوص وثقافة التجهيل بسبب وجود حواجز إيدلوجية أو محاذير لاهوتية وقد يتعافى الفرد منها عن طريق إبادة هذه المصدّات وذلك بالدخول في معمعة الجدال تبعاً لتوفر القابلية العلمية التي تحتكم للدليل العقلاني الذي يذلل الخشية من الرقيب بجميع مسمياته، فمن المفترض أن تكون غاية الإنسان أبن هذا الأوان هي الإطاحة بالرجعي وعدم إضاءة مفاهيم بليدة هدفها التنكيل بما هو إنساني تاركاً خلفه حيرة السؤال الوجودي وكثيراً من الاستفهامات الجدلية المعمرة التي تصدّرت المحاور الفلسفية والمباحث الديالكتيكية على مر الأزمنة، لذا أن المعلّق والمخبوء من الأسئلة الكونية الشائكة التي تعني بمراحل تربية الإنسان قيميا بقيت مترددة ومبيتة في النفس البشرية كونها بحاجة إلى قوة عارفة تدحض التلكؤ.