فنجان قهوة لعمود الصباح

الصفحة الاخيرة 2024/05/16
...

كنتُ يومها في إسطنبول، أصطحب حمزة مصطفى، بجولة عند منطقة ميناء إيمنونو المكتظة بالباعة والسياح والعابرين، حيث البوسفور وجسر غلاطة والنوارس الصاخبة الجائعة دوماً وهي تتبع العبَّارات السياحيَّة؛ لتلتقط من أيدي راكبيها فتات الخبز وبقايا الطعام، جلسنا لاستراحة قصيرة في الظل على حافة جدار قديم تهب علينا نسائم منتصف آب فتلطّف الجو، وتخفّف وطأة الزحام، واكتظاظ الناس، وثقل أنفاس البحر، وإذا بهاتف من بغداد يحمل لي صوتاً أثيراً، يُعلمني زيد الحلي بأن الزملاء في "الصباح" سيتصلون بي لرغبتهم باِنضمامي إلى كُتّاب الجريدة بعمود أسبوعي بعد أن أصبح الخميس شاغراً بغياب زميل من كتاب الأعمدة الصحفيَّة المعروفين بكلماتهم المباشرة التي يدلقونها من دون مكياج ولا رموش ولا رتوش!

حاولت اختلاق الأعذار للذي لا يمكن أن أرد له طلباً، لكنّه أحالني إلى المكالمة اللاحقة التي لم تتأخّر، وكنت وحمزة قد انتهينا من استراحتنا ومشينا صعوداً باِتجاه مسجد السليمانية أعظم إنجازات المعمار سنان ومكان قبره، وما كدنا نصل بوابته الخلفية حتى رنَّ هاتفي وإذا بنبرات صوت أعرفه جيداً ولو غاب عن سمعي عشرين عاماً.. محمد إسماعيل.. الزميل الودود المحب الذي بقي مخلصاً لعمله الصحفي طيلة أربعين عاماً، ومحافظاً على روتين التقاليد القديمة، ومنها التمسك بالقلم والورقة أثناء واجباته الصحفيَّة نكاية بالعصر الرقمي والحاسوب والكيبورد.. محمد رجل عملي فما أن بدأنا الكلام حتى قال لي بلهجة مؤدبة رقيقة كعادته، إنَّ رئيس التحرير يرغب بالتحدث معي، بالطبع أنا أعرفه جيداً، قرأتُ له كثيراً من الشعر والمقالات والأفكار لكننا لم نلتقِ من قبل، ولا أذكر أننا تواصلنا قبل تلك اللحظة التي غمرني فيها بكلام مهذب وخلق جميل، حاولت خلاله أن أقنعه بأعذاري، وهي مجرد هواجس تتعلّق بأخلاق مهنيَّة تبدو الآن قديمة وربما متخلّفة، ورفعاً للإحراج، فقد طلبت من الزميل أحمد عبد الحسين، إمهالي شهراً على الأقل لكي أنضمَّ إلى كُتّاب الصفحة الأخيرة، وكانوا في وقتها باقة من كُتّاب الأعمدة المرموقين أمثال حسن العاني، وزيد الحلي، وهاشم حسن، ومحمد غازي الأخرس، وعبد الهادي مهودر، وبدا لي أن أعذاري لم تقنعه، وهذا ما علمته برسالة وصلتني مساء اليوم نفسه من الحلي ناقلاً لي رجاء رئيس التحرير بإعادة النظر في مهلة الشهر، والمباشرة بالكتابة.. وهكذا كان.

بالطبع، توجد أسباب أخرى لترددي، فلستُ ممن يستسهلون الكتابة في جريدة حكوميَّة لها رؤيتها الخاصة وفلسفتها، وتلك مسؤولية ثقيلة على الكاتب أن يدركها بدقة وعناية لكي لا يحرج نفسه ويحرج الآخرين معه، وفي كل الأحوال لا بدَّ من فكرة لامعة يستحقها القرّاء، وتستحقها الجريدة، غير أن الحارس القديم في حقل الصحافة محمد إسماعيل، لا يترك لك فرصة التفكير بمثل هكذا مخاوف وهواجس، وهكذا رفاهية لا معنى لها، فهو يطالبني منذ البدء بتوفير "بوار" من الأعمدة لا تقل عن أربعة؛ لكي ينام مطمئناً رغداً وتحت مخدته أعمدة تكفيه شهراً كاملاً للكاتب نفسه!

قرأنا عن كُتّاب أعمدة كبار في الصحافة العربيَّة، كانوا يرتشفون قهوة الصباح على صوت الأنغام الموسيقيَّة الهادئة، وهم يكتبون أعمدتهم التي تنشر في الطبعات المسائية لصحفهم، أو صباح اليوم التالي في أبعد تقدير.. محمد إسماعيل، يرفض أن يكون الكاتب بطراً لكي يرتشف فنجان قهوة مع الصباح ... " بوار" يا محمد؟!