أنا جاهز للموت.. سيرة مغايرة

ثقافة 2024/05/19
...

  د. ضياء خضير

تنتهي رواية أمجد توفيق الأخيرة "الحيوان وأنا" بقول الراوي: "أنا حر، أنا جاهز للموت".. وهي كلمة تبدو، كنتيجة، مناقضة للوضع الذي بدأ فيه ضابط الشرطة السابق دانيال علي موسى يستعيد حياته إثر عودته لمزرعته مع حيواناته الأليفة التي كانت مع المرأة -الذكرى سعيدة بهذه العودة من سفرته إلى العاصمة البريطانية لندن.
 وأمجد توفيق يكون بهذا وفيا للدافع الأساسي الذي كان وراء كتابة الرواية. وأعني الفكرة الخاصة بمعنى الحياة في علاقتها بالموت في هذا العمر المتأخر الذي يتجرد فيه الإنسان وسط عزلته المترددة بين الاعتكاف والهروب من كلّ شيء عدا السؤال الجوهري الخاص بمعنى وجوده وموته نفسه.
ولذلك فهي ليست إضافة مفاجئة ومدهشة تنتهي بها الرواية على نحو غير متوقع، وإنما هي الجزء الداخلي المؤلف لبنية العمل وثيمته الأساسية، والجواب الذي تنتهي عنده قرار كلّ النغمات ذات الطبيعة الشعرية والفلسفية التي تحلِّي الخطاب السردي وتؤثث غرفه الداخلية بألوان من المحاكيات والقصص والخطابات الفكرية والفلسفية المختلفة.
وهي عندنا الكلمة البؤرة التي قد يضطر الراوي للتغطية عليها ونسيانها أحيانا كما يجري نسيان الموجود لصالح الوجود في الفلسفة الهيدغرية.
والموجود البشري، كما يقول هيدغر، هو  الوحيد القادر على فهم حقيقة الوجود. والفكر عنده ليس أكثر من علاقة ذات حرة مع موضوع تحاول أن تنفذ إلى سره عن طريق فهم الكينونة بالارتباط مع وجودها الحر فهما أفضل.
وهذا هو، على نحو من الأنحاء، ما يحاول بطل "الحيوان وأنا" أن يفكر فيه، وأن يعرض نفسه للتجربة في المزرعة من خلاله.
وقراءة العمل قراءة فاحصة لا تتم من دون معرفة بؤرته المعرفية الأساسية هذه التي يحتل فيها هذا النمط من التفكير الفلسفي والنفسي موقعا أساسيًا، وتقدير الدور الذي يلعبه حضوره في مجمل الرواية.
وبعض ملامح شخصيات الرواية وعلاماتها موجودة حتى في اسم حصان الراوي "ظلام" وكلبه "ليل" وفي المرأة "الذكرى" القادمة من حاضر الماضي لتقتحم عالم الراوي دون توقع، وتضفي على المقطع الأخير من حياته شيئا من التجدد الذي قد يشبع ما ينطوي عليه جسده من غريزة حيوانية، ولكنه لا ينسيه ما عقد عليه العزم من استعداد وأهبة للرحيل تقتضي وعيا واهتماما مضاعفا بالذات في عزلتها المضيئة.
وبالإمكان قراءة الرواية على هذا النحو قراءة سميائية نتعرف فيها على الظلام والليل باعتبارهما علامات دالة تغطي بظلالها القاتمة هذا المقطع الأخير من حياة الراوي بعد تقاعده واعتزاله في مزرعته غير البعيدة عن المدينة.
وحتى اسم الراوي والشخصية الرئيسة في الرواية "دانيال علي موسى" يمكن أن يقرأ قراءة خاصة نرى فيها الحرص على الجمع بين مكونات دينية وطائفية عراقية مختلفة توحي بالتوازن والموضوعية والتوسط. والملاحظ أن هذه الألوان السوداء والمعتمة تحتل حيْزا في فضاء السرد يصل حدّ أن الراوي يدرك الجانب المعتم من الحكمة التي "غابت عني فضائلها تلك التي تحوز على إعجاب الناس، فبقيت اتعامل معها حين تذكر أمامي أو حين يصف أحدهم فعلا أو موقفا اتخذته بالحكمة على أنها محضُ عاهرة أحاول الحفاظ على مسافة تبعدني عنها".
وعزلة البطل التي يقول خلالها إن الاهتمامات القديمة فقدت بريقها عنده فيها تدعو إلى التفكير في طبيعة العلاقة القائمة بين الفكرة الأساسية التي يجري توظيف شبكة الأفعال والشخصيات والعلاقات والخطابات الأدبية في مجمل العمل للتعبير عنها.
والوصول إليها في حاضر البطل وماضي مدينته وحياته فيها التي ذهبت ولن تعود إلا كذكرى، من الصعب أن يتمَّ إعلان الفكرة هكذا مجردة تحت سماء المزرعة العارية دونها. ولعل الخطابات الحكائية والملفوظات الفكرية المجردة التي تتخلل بعض الفصول للتعبير عنها أن تثقل كاهل الرواية وتمنع الوحدات السردية من التواصل والنمو.
  إن العزلة في المزرعة عن الناس وكل وسائل التواصل الاجتماعي هي نتاج الرفض للمدينة والتجربة السابقة لحياة الراوي فيها من أجل إعادة تأهيله روحيا في هذه المرحلة الجديدة من حياته.
ولا يبعد أن يكون السبب في ذلك شعور بعقدة ذنب قديمة ملازمة يحاول الراوي أن يبعدها والتكفير عنها عن طريق التسامي والخلاص الروحي والأخلاقي.
ولكنه يسلك هنا طريقا عكسيا يطرد فيه من جحيم المدينة إلى جنة المزرعة الصغيرة. ونحن نعلم كيف أن فرويد قد فسّر نشوء عقدة الذنب التي أخرجت آدم من الجنة، بأن الإنسان آثر أن يستقيم في قامته من وضع انحنائه الذي كان يعاني منه بحسب نظرية النشوء التي أطلقها داروين في نظريته حول التطور من مرحلة القرد إلى مرحلة الإنسان. في حين نرى أن دانيال علي الموسوي يفعل العكس من ذلك في تماهيه مع الحيوان بالعودة إلى انحناءة القرد.            
وما يرد في الرواية من حكايات مفردة عن الحرب واللقاء الغريب في سفرة سابقة قام بها الراوي للندن مع الجندي الإيراني، وما تنطوي عليه قصته مع هذا الجندي الذي تخلى معه عن السلاح في إحدى المعارك، من روح إنساني مشترك وإدانة للحرب وعبثيتها، وحكاية موج مع ابنه نبيل الذي يتم عقد قرانه عليها خلال وجود دانيال مع صديقه أبي رامي في لندن، وحكاية السجين الخائن للعهد والناكر للجميل بسبب هروبه من المقبرة بعد السماح له بالخروج من السجن للمشاركة في وداع أبيه لأسباب إنسانية، وقتل ظلام الذي شكل جزءا أساسيًا من حياة دانيال في المزرعة منذ تلك اللحظة التي رأى في عينيه الدائريتين على جانبي رأسه ما أشعر صاحبنا بصلة اضطربت له دقاتُ قلبه.
ومذكرات موج الغريبة خلال اختبائها في المزرعة، والتي تركتها بعد سفرها على سرير غرفتها ليطلع عليها العم دانيال ويتعرف من خلالها على التجربة العاطفية الأولى والوحيدة لزوجة ابنه القادمة، مع أحد زملائها في كلية الطب، وغير ذلك من قصص مفردة وحكايات، تأتي إليه عبر الذاكرة في عزلته بالمزرعة زمن الاحتلال وتردي الواقع الأمني والاجتماعي والأخلاقي مثل شظايا صغيرة تجرح الذاكرة، وتطفف على صاحبها التمتع بحياته الجديدة المختلفة.        
وبإمكاننا تبعا لذلك أن نغض النظر عن الصورة الميلودرامية التي ظهرت عليها الرواية خلال الجزء الأخير منها، المتعلق بالزيارة التي قام فيها السيد دانيال وصديقه أبو رامي للندن، باعتبارها مجموعة من اللقاءات والحوارات والتوافقات السطحية الموظفة لإكمال الحكاية، دون تدخُّل فيما هو أكثر عمقا وتعقيدًا في بنية الرواية الداخلية، أو التأثير على ما أراد الراوي قوله في تلك الكلمة النهائية الملخصة فيها: أنا حر، أنا جاهز للموت.
  وربما كانت الرغبة في تشبُّه الراوي بالحيوان داخلة، هي الأخرى، في هذا المعنى الذي يحاول هذا الراوي القريب من المؤلف أن يتجرد من كل شيء عدا عن الغريزة الطبيعية التي تجمعه بهذا الحيوان. على الرغم من الفارق الذي لا يستطيع فيه هذا الحيوان أن يعي حريته أو موته كما يفعل الانسان. غير أن هذا التماهي بحد ذاته مع الحيوان والعلاقة الحميمة مع ما يوجد في مزرعة الراوي منه كالحصان والدجاج والقطط هو التعبير عن الرفض للمدينة ولممارسات ناسها الذين لاحقت دانيال شرورهم بالابتزاز والتهديد، الذي انتهى بقصة القتل التراجيدي للحصان ظلام.
أما موضوع الموت الذي رأينا كيف أن الراوي يتجهز له ويقرنه بالحرية فقد تكون المقدمات التي وردت عنه في المحكيات المتقدمة غير كافية لوضعه هذا الموضع المركزي الذي تختتم به الرواية. ولكن وعي الموت يظل المرتكز والتجربة الأساسية في كل فكر حر. وهو لدى دانيال نوع من الحاضر الغائب الذي يلتصق بالحياة كما تلتصق الجرثومة القاتلة في قلب الثمرة الناضجة في بعض أشجار مزرعته.
وأخيرًا، لست أدري لماذا أحس وأنا أتقدم في قراءة الرواية بأنها نوع من الحوار الداخلي أو المنولوغ الطويل الذي يجريه مؤلفها مع نفسه، وأن الأصوات الأخرى الموجودة فيها بلغتها العربية الموحدة تعبير من نوع ما عن صوته وتطلعاته الشخصية. وهي أن لم تكن حلما بسيرة ذاتية مختلفة، فإنها عزم عليها ومحاولة لاجتراح حياة وسيرة جديدة من خلالها.