انتبه.. أنت مُهمَل

الصفحة الاخيرة 2024/05/19
...

محمد غازي الأخرس

هكذا أنا، دائم العودة لألفريد أدلر، عالم النفس العظيم، الذي وضع لنا نظرية لا مثيل لها لاستكشاف النفس البشرية المعقدة، والغوص في عقدها وأمراضها.
اليوم أود التوقف عند مفهوم شكل ركيزة أساسية في نظريته وهي الإهمال، أي إهمال الفرد وعدم إيلائه الانتباه، وهو الحاصل كثيراً في بيوتنا والعديد منا كانوا ضحايا للظاهرة.
أجل، دائماً ثمة طفل مهمل ومركون في زوايا النسيان، بموازاة شقيق أو شقيقة يكون تحت الأضواء، وتنفذ طلباته وكأنّها أوامر.
أنا عانيت في طفولتي من إهمال جزئي، أو لعله خُيِّلَ لي ذلك نتيجة ملاحظتي الدلال الذي حَظِيَ به أخي الذي فقدناه في حرب السنوات الثمان.
لن أنسى، ذات يوم، حين جاء أبي وأمي من سوق "اللَنْكَه" ظهراً حاملين أكياس الملابس للجميع، ثم شرعوا بتوزيعها بين الأطفال، ولشدَّ ما صدمت حين اكتشفت أنهم لم يجلبوا لي شيئاً.
حينئذ، انسحبت من دون أن يلاحظني أحد، ولذت في ركن الدار بجوار تنور الطين وبدأت أبكي، وبقيت كذلك حزيناً محبطاً حتى اكتشفتني أمي وهرعت لي لإقناعي أنهم لم ينسوني أو يهملوني.  
بالنسبة لأدلر، فإنّه يحمّل الإهمال المسؤولية عن أخطر النتائج في بناء شخصيَّة الطفل وأبرز ما يجري أنّه ستتركَّب لدى الطفل عقدة نقص، وسينظر بشكل عدائي للمجتمع.
ثم إن عقدة النقص هذه تنتج، بدورها، خصيصة ارتداديَّة هي النرجسية المتوهمة، وآليَّة ذلك أن من يهمله الآخرون يتجه في ردة فعله إلى معالجة جرحه النرجسي بتوهم نرجسية معادلة، وهو ما يقود إلى تكوّن شخصيات عصابيَّة، لديها قابليَّة لممارسة الطغيان على الآخرين لتعويض أمراضها.
إن سير أغلب الطغاة تشي بأنّهم عانوا في طفولتهم من الإهمال، كونهم من دون آباء أو فاقدين للدفء العائلي.
ليس هذا فحسب، فأدلر يشير إلى أن المجتمع يبدو بنظر الأفراد المهملين من دون مشاعر وعدواني، بل إنّهم "يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بعجزهم عن اكتساب ثقة المجتمع مهما فعلوا، ومهما قاموا بأفعال جيدة فلن تعود بالنفع عليهم بأيِّ نفع من هذا المجتمع البارد والعدواني".
في مجتمعنا، لا يتحول الطفل المهمل إلى معقد نفسيّاً فقط بل انه قد يغدو مجرماً في كبره، والمتبحّر في حياة المجرمين وأبناء الليل لن يعدم العثور على قرائن على هذه الفكرة، فأغلبهم إما تعرضوا إلى الإهمال أو مورس عليهم العنف من قبل الأهل أو في الزقاق حيث تسود ما يسميها علي الوردي الشخصية الزقاقيَّة وهي شخصية عنيفة وتتخذ أسلوب الغلبة والمخادعة وتؤمن بكسر العين.
هنا، يجب الانتباه إلى أن الصبي المهمل في بيته أو المفتقد للرحم الاجتماعي السوي سيعثر في الزقاق وقيمه على تعويض عن عقدة النقص التي يعانيها.
الأخطر من هذا كله أن ما ينطبق على الأفراد المهملين يصح على الجماعات والشرائح التي تعاني المأزق نفسه، ومصداق ذلك نجده في الطبقات المسحوقة والشرائح المحتقرة، وأصحاب المهن "الوضيعة"، وينطبق الأمر على الأقليات الدينية والعرقية والطائفية.
في العراق بالذات، مثلت هذه مشكلة كبرى، وتواصلت طوال القرن العشرين، وما زالت قائمة. والخلاصة رأيناها في بلادنا أوضح من الشمس، إذا كان الفرد المهمل يفقد ثقته بمجتمعه، فإنَّ الجماعة التي تتعرّض لإهمال مقصود تفقد انتماءها للدولة التي تعيش فيها، ولنا عودة.