تايكر وسيكارة

ثقافة 2024/05/20
...

  مآب عامر

ثقافيات الصباح تحتفي بنصوص الأدباء الشباب الذين فازوا مؤخرا بمسابقة الأدباء الشباب دورة الشاعر الرائد بدر شاكر السياب في حقلي القصة والشعر

السكون المريب يعمّ داخل شعبة دراسيَّة، صوت خفيف توضيحات المعلمة، ثلاث فتيات يجلسن متلاصقات على آخر مقعد بجوار النافذة، يتهامسنّ متبسمات، حولهن التلميذات مركزات مستغرقات في الدرس.

أشعة الشمس الصباحية تلامس ملامحهنّ، يتبادلن نظرات حيرة وارتباك، يتتبعن تحركات الجالسات في الفصل، القريبة من الحائط بدت شديدة النحافة، مدّت يدها داخل درج الرحلة، سحبت جزدانا زهريا مربعا  ووضعته في حجرها، بشرتها سمراء، بتسريحة شعر كاريه مزينة بخصلات ذهبية غليظة، وتلف شالا أبيض حول رقبتها.

نسمات خفيفة تداعبهن، بدت الثانية أكثر امتلاء، عقفت يديها على الرحلة ووضعت رأسها بينهما مغمضة العينين، الثالثة بادرت بالنهوض وسارت بسرعة باتجاه المعلمة، همست لها"صديقتها سيغمى عليها، تعاني من ألم فظيع في المعدة، تريد أخذها  لغسل وجهها، بطرف النظارة رمقت البنت المتقلصة فوق الرحلة ثم رفعت كمّ قميصها طالعت عقارب  ساعة  رخيصة الصنع، وقالت: لتتحمل قليلا سينتهي الدرس في غضون دقائق. ألتفت نحو السبورة وتابعت شرح المادة، عادت البنت بخطى متثاقلة، ناقلة خيبتها برفع يديها على الجانبين ومطّ شفتيها إلى الأسفل.

الدقائق تمرّ بصعوبة، الملل بدأ  يخنقهن، نظراتهن تتبع تحركات المعلمة في الفراغ، يصغين إلى طقطقة كعبها من دون تركيز، أنفاسهن بدأت تتثاقل، مشاعر احباط  تعتري أرواحهن، وكأن صوت الجرس، قارب نجاة  ينتظرنه بفارغ الصبر.

ارتسم على  الملامح  المترقبة  الفرح والخبث، رتبن أغراضهن ثمّ تسمّرن هادئات، يرقبن خروج الجميع الى الاستراحة، حولهن ضجيج الطالبات، ضحكات وخطط غير مكتملة، أصوات تحرّر مؤقت، رائحة وجبات خفيفة أكياس الجبس والشوكولا..  تسلل جزئي، سحبن حقائبهن، وتوجهن إلى ممرّ المدرسة الرئيس، توسطن بوابتين عن كل طرف من الممر أعمدة حديدية ذات لون رمادي، ترتبط بالممر الرئيس أربعة ممرات فرعية اثنان على كل جانب تتوزع داخلها الشعب الدراسية، على شكل ضفتين في المنتصف حديقة ترابية مستطيلة مفتوحة البناء من فوق يطل عليها الطابق الثاني.

أصابهن التوتر وهن يقتربّن من مخرج الممر الرئيس أمامهن، هناك صعوبة، على الجانب الأيمن غرف الإدارة، وعلى الجانب  الأيسر غرف المدرسات، تسمرن ثلاثتهنّ، تقدمت الفتاة الأولى مجازفة ونظرت في الاتجاهين لتأمين عدم تواجد أي أحد يراهن، رائحة الدولمة والمشاوي تخرج من الممر الأيسر، باب الغرفة مغلق يخرج عنه صوت دوي نسائي.

الحارس يتجول بزيه الرسمي  ما بين البوابة المواربة وغرفته، انتظرن حتى يدخل غرفته توقفت  فتاتان عند شجرة السدرة  الشاهقة التي تهجع إلى جانب الغرفة، أسفلها صنبور ماء يقطّر، تقدمت الأولى بإتجاه الحارس.

غرف مربعة من الطابوق، لها باب حديد أسود اللون ممتلئ بثقوب صدئة، رائحة رطوبة عفنة، فيها سرير خشب وكرسي بلاستك موضوع إلى جانب الطاولة وفي زاوية بعيدة ثلاجة صغيرة الحجم متسخة، الفتاة الأولى حاولت استمالة الحارس واقناعه بطلبها أن يسمح لها بالشراء من دكان مقابل المدرسة لكن الأخير قابلها بصرامة. قالت إنها ستعود بعد دقيقة .

أطلق الحارس صرخات، حفزتهما للهرب خارج المدرسة، أما الأولى فقد رجعت إلى الوراء على مهل، ثم أقدمت على إنهاء الحديث، وقفزت خلف زميلتها.

استمرت بالركض وتبعتها الفتاتان وهن يحملن الحقائب استمرن بالركض.. ركضن بضحكات تملأ وجوههنّ، صرن بعيدات عن نقطة الانطلاق.

الشمس تستعد لتكون عمودية، البنات يسرن بعبث الشوارع شبه خالية من المارة، امرأة مسنة تجرّ عربة بقالتها الخضراء، حولهن منازل هادئة ومغلقة، مررن بأسواق كبيرة دخلت الأولى تتبعها الإثنتان، دارت حول البضائع المعروضة.

الأسواق شديدة البرودة مملوءة بروائح المواد الحافظة، منظف "ديتول"، لها بوابتان واحدة للدخول وأخرى للخروج، ثلاثة شباب بملامح لطيفة وجميلة يقفون خلف كل صندوق حساب.

سحبت الفتاة الثانية سلّة تبضع ركضت لوضع الجبس بحجم كبير ثلاث قطع من الشكولاتة، واستمرت بالدوران حول رفوف منظمة كأنها متاهة عالية. الثالثة حامت عند برادات العصائر أحمر خدها حتى حملت ثلاث زجاجات "تايكر".

تسللت الأولى إلى الطابق الثاني أدوات منزلية ومنظفات بينها جذبها رفّ الألوان وأصباغ الرسم، لوحات بيضاء واستاند رسم، سحبت بخاخا أبيض وآخر زهريا، لحقت بصديقتيها في الطابق الأول عند الكاشير، وضعت أغراضها مع بقية المشتريات، مدّت يدها إلى رفوف صغيرة خلف "الكاشير" عليه علب السكائر استلت علبة "أي سي" نعناع.

 اليوم الدراسي يقارب على الانتهاء، خرجت الأولى تتأرجح بكيس المشتريات بجانبها الثالثة، بينما الثانية كانت تسير خلفهن ببطء مع الحقيبتين.

مدرسة بالية لطلاب الابتدائي، تطل على شارعين داخليين، وطرف شارع عام يحدّ طول طرفه سيارات حمل ممتلئة بالبقالة وباعة متجوليون، خلفها ساحة كبيرة تحوي كتلا كثيرة من النفايات، أكشاك مهترئة مقفلة.

أشجار قليلة تخترق تجمعات النفايات، وقفت اختارت الأولى ظل شجرة واشعلت سيكارة، بينما الثالثة أخذت تخط ببخاخ على حائط المدرسة المطل على الساحة، أما الثانية جلست على طابوقة بجوار الأولى عند الشجرة ترتشف "التايكر".


  (من مجموعة "تنورة جينز قصيرة"  الحاصلة على المركز الثاني في القصة)