الليلة الأخيرة

ثقافة 2024/05/20
...

  رأفت عادل


تغيّرتْ طباعه في الآونة الأخيرة، وبدا ينزعج من كلّ شيءٍ، بل لا يجد معنىً لأيّ شيء، تحوّلت لياليه إلى نهار يداري فيها أوجاعه، بعيدًا عن البشر، فعلى الرغم من تغيُّر سجاياه، إلّا أنّ الأوجاع والآلام لا تعرف ذلك، تورّمتْ عيناه إثر نوبات البكاء الهستيرية التي لا تنفكّ، تنتابه على غير موعد، لدرجة أن يفزّ من نومه ليصرخ ويلطم رأسه، أو يضرب على فخذيه، ذهب شبابه سدىً، بالرغم من أنّه يناهز العشرين من عمره، ولكنَّ الفجأة والدهشة علامة من يراه، إذ تحوّل عقيل اليافع، ذو البدن السليم الذي تقسّمه تقاطيع العضلات المنتفخة إلى شيخ كهل، لا يقوى على غير البكاء والصراخ، هائمًا في اللا شيء، بقايا مرارة الحياة تتعلّق في سقف فمه، فتمنعه من تناول الطعام الذي قد يتصدّق به أحد المارّة عليه، بعد أن ينفطر فؤاده لهيئته، ولكنّه لا يعير الطعام ولا كلمات المتصدّق التي تخترق أذنه "مسكين.. لا حول ولا قوة إلّا بالله"، فضلًا عن المال وأشياء أخرى زائدة عن حاجة الناس، ولكنّه يرفض بشدة وعصبية، ويكتفي بشرب الماء، ظنًا منه بأنَّ الماء من شأنه أن يطفئ لهيب أوجاعه، أو يخفّف من وطأتها، اتّقاد ذاكرته يمرّ بين الفينة والأخرى، مثل الشريط العاجل الذي يظهر أسفل شاشات التلفاز، صورًا قديمة لحادثة جعلت منه مجنونًا كما يظهر، والحقّ أن ليس في ذاكرته غير هذه الصور، صور الليلة الأخيرة بين عائلته التي لا تتراءى له حتّى يبدأ بهزّ رأسه مثل درويش مخضرم، ويتمتم بكلمات تبدو للسامع بأنّها شيءٌ من طلاسم أو آيات سحر، واذا ما أراد تحرير ذلك الوجع من صدره والخلاص منه أبدًا، بدأ يعضُّ أصابع يديه، أو تمزيق دشداشته الرمادية، المتيبّسة كما لو صفيحة حديد إثر جفاف العرق والماء الذي يبلّل رأسه فيه عليها، ينال العجز منه، لأنَّه يأخذ بتمزيقها من الطرف الذي لا يطاوعه لذلك، ذوبتْ شمس النجف وشوارعها الترابية جسده، انسلخ جلده، واكتسى بلون يشبه لون حياته الآن، وهو لا يكفّ سائرًا أو راكضًا بين أزقّتها، لينتهي به المطاف في مقبرة وادي السلام، هائمًا بين القبور، باكيًا، لاطمًا، بشكل يثير شفقة من يراه، ويحسب أنّ له عزيزًا تضمّه ثنايا الأرض، فجأة يعاوده الهدوء، والحالة التي تشبه حالة المتأمّل، كأنّه يبحث عن السلام بين الرفات، وفي هذه الأرض ليس عجيبًا أن تجد مجنونًا تذوب الأفئدة لرؤياه شفقة وانكسارًا، بل العجيب أن يكون لهذا المجنون أمرًا واحدًا مهمًا، أمرًا جُنَّ بسببه، وآلتْ حالته إلى الضياع والتشرّد، ولشدّما يغضبه أن يقال عنه متشرّد، لأنه بالرغم من جنونه يعتبر نفسه باحثًا، وربما هذه لحظات وعيه التي تخلو من الجنون، فيبدأ بالبحث والبحث عن أيّ شيءٍ يعيد له الطريق المؤدّية لعائلته، وعندما لا يجد شيئًا يفترش أيّ مكان ليغطّ في نوم عميق، كأنّه لم ينم منذ أسبوع، رغبته بالنوم لا تجابه، ومكان النوم ليس مهمًا أبدًا، فتراه ينسدح على الرصيف، أو تحت الجسر، أمام المحال التجارية، ولا يصحو إلّا بعد منغصّات نوبة البكاء، وعادة ما تراود الصور المرتسمة على جدران ذاكرته من ماضي حياته مع أهله، وأخيه حيدر، تساؤلات ظلّت تزعجه وهي تتقافز بشكل عشوائي خالية من الجواب " لماذا جرف البستان؟! أين أهلي؟! حيدررر؟! أين أنا"، عجزتُ أنا أيضًا من محاولات الوصول إلى عقيل بأيّة طريقة، نفدت كلّ وسائل الإقناع، وهو لم يرضخ ولو لمرّة واحدة لانتشاله من حالة البؤس والمأساة التي يتلفّع بها، صار يهرب كلّما لمح لي ظلًّا، ويتعرّف عليَّ حتى وأنا بزي متنكّر، فيعدو راكضًا يصرخ بصوت أجش "لا لا لا آخخخ لالالا لا ".

حاولت بمساعدة أحد الأصدقاء سوقه إلى داخل السيارة بالقوّة، ولكنّنا لم نتمكّن من ذلك، وكان قد لكمني في وجهي، بينما لاذ صديقي بالفرار من بطشه وهو يصرخ:

-هل أنت مجنون يا رجل!! خلاص حاولنا بما فيه الكفاية اتركه.. كاد يقتلني.

على الرغم من النحل، والتضاؤل الذي يتمكّن من جسده، إلّا أنّ أعصابه قويّة جدًّا، كأنّني جننت مثله، وأنا أبحث عن فكرة، أو أيّ شيءٍ يمكِّنني من الوصول إلى ما وراءه، نهرني مدير المؤسسة وأصدقائي فيها، ولكنّني ما ارعويت، وظللت أجيء وأروح بأوقات متفاوتة على مكانه الأخير، إذ صار لا يتحرّك منه قيد أنملة، ويقضي معظم أوقاته بالجلوس والتمتمة، مع إشارات استفسار تصدرها يداه وحركة رأسه، في يوم صيفي قائظ، خطر لي أن أضع جهاز تسجيل صغير في جيب دشداشته، ولكن المشكلة هي كيف سأصل إليه!؟ كنت في طريقي إلى مرقد الإمام علي عليه السلام، طفتُ حول الضريح، ومحاولة الوصول إلى عقيل ووضع الجهاز في جيبه لا تبارح ذهني، جموع الزائرين الذين يلوذون بالضريح وأصواتهم الصادحة بالدعاء والصلوات لم تخفِ طمأنينة المكان وسكونه، رائحة زكية تخترق الأنوف، شرعت بقراءة الزيارة بصوت خافت، ولا تزال صورة عقيل تتجلّى في ذهني، توقّفت عند جزء من الزيارة ( وَّأَصْوَاتَ الدَّاعِينَ إِلَيْكَ صَاعِدَةٌ، وَّأَبْوَابَ الإِجابَةِ لَهُم مُّفَتَّحَةٌ، وَّدَعْوَةَ مَن نَّاجَاكَ مُسْتَجَابَةٌ)، خفق قلبي، واعترتني رعشة طفيفة، فجأة توقّفت، وسرت قاصدًا الخروج من الحرم الطاهر كأنّني نلتُ مرادي، ما من معضلة إلّا ولها أبو الحسن.. آمنت بأنّ صوت دعائي بالوصول إلى عقيل صاعد، وباب الإجابة مفتوح، قلت بصوت مسموع، وخطواتي لا تلامس الأرض.. يا علي لا تخيّب ظنّي ورجائي، بعد خمس عشرة دقيقة بالتمام، وصلت المكان الذي يقبع فيه عقيل، كان نائمًا، وأشعّة شمس الظهيرة تسقط على جثته المسجاة على الرصيف، يغطي رأسه بخرقة من أسمال بالية ترافقه أينما ذهب، وألاحظه أحيانًا يشمّها ويستنشق رائحتها، اقتربت منه بخطوات وئيدة وأخرجت جهاز التسجيل من جيب بنطالي، صرت بالقرب من رأسه، توقّف شخيره لثانية، وعندما هممت بمسك طرف جيب الدشداشة، مسك يدي وفتح عينيه اللتين تحوّل بياضهما إلى الأحمر، جفلت، تسمّرت بمكاني كأنّني مسمار نبت في قطعة خشب، تحرّك يريد الجلوس، أصابع يده تلتف حول معصمي، فجأة وبقدرة إعجازية نطقت على غير هدىً.. ماذا سأقول.. خرج صوتي متهدجًا متقطعًا :

-انا لا أنوي شرًّا.. أنا؛ أنا أحبك.. هـ.. هل تقبل أن أجلس؟!

نشف ريقي، وشعرت بحلقي تيبّس، لساني كالعصا، لم يُجب، ولكنّه أفلت يدي على مضض، عرفت بأنّه سيرضخ أخيرًا ولو لوضع الجهاز، علَّه يلتقط بعض الكلمات التي أعرف منها مكان سكنه؟ أو اسمه واسم عائلته؟ ساد للحظات صمت مطبق، تقطّعه أصوات مرور السيارات ومزاميرها، أحسست بأنّ الإرباك الذي داهمني فجأة، وارتخت له عظامي قد تلاشى، ولكنّني ما زلت بذات الحذر من أيّ حركة يباغتني فيها، لم يحوّل بصره عن وجهي، لسعتني خيوط أشعّة الشمس التي تسقط عمودية، أخيرًا وبلا مقدّمات، وضعت الجهاز في جيب صدره بعد أن ضغطت زرّ التسجيل، وقلت:

-لا أريد منك شيئًا.. وسأذهب الآن، ولن أعترض طريقك، ولكن حافظ على هذا في جيبك، واجعله قريبًا منك دائمًا.. سأعود غدًا، آخذه منك.. هل فهمت!؟

لم يبالِ لما قلت، ولم تصدر منه أيّة حركة أو نأمة، سوى صوت أنفاسه الغليظة، توقّفت في اليوم التالي في الوقت ذاته، رافقني هذه المرّة صديقي الذي اندهش ولم يصدّق بأنّني تمكنت أخيرًا من الوصول إليه، ترجّلنا من السيارة، وصرت أمامه، كان يتحرّك بحركات عشوائية، وبدا أنّه يبحث عن شيء ما، لم أتوصّل لمعرفته طيلة فترة وجودي عنده في تلك اللحظة.

جلست القرفصاء، ومددت يدي على مهل في جيبه، أخرجت الجهاز، وناولته لصديقي، طرحت عليه سؤالًا عن رغبته بالمجيء معنا للاعتناء به، صمت برهة، وأدار رأسه يمينًا، فجأة نطق، كان صوته ضعيفًا:

-أمن؟! حححزب؟!

عرفنا أنا وصديقي بعد لحظة استفسار سبب جنونه، فسأله صديقي عن اسمه، وكنت أظنّ بأنّه لا يبالي لإجابة السؤال.. زفر، وأجاب بحشرجة صدر:

-عقيل.

- ما رأيك يا عقيل؟ أن نذهب لمكان ليس فيه أمن أو حزب؟

قلت محاولًا إقناعه، لا أذكر يومًا آمنت فيه بأنّ هذا العالم يضمّ مجانين.. ليس هنالك مجانين، وهؤلاء ليسوا سوى أناس توقّف بهم الزمن عند مصيبة أو صدمة، ويا لحظّ عقيل البائس، فقد توقّف زمنه في فترة النظام البائد، وظلّ يعيش أيّامه على الرغم من تحطّم النظام ورجالاته، وأحالهم الزمن ذاته إلى رفات، بعد أن صار عقيل في بيت المؤسّسة، وحصل على كامل وسائل الراحة والاعتناء، تحوّل لشخص صامت واجم كأنّه ساق شجرة، وشيئًا فشيئًا يستجيب للمرشد الخاصّ به، وفي غرفة المدير رحت أسجّل كلماته العشوائية الممتزجة بالبكاء والنحيب، التي التقطها جهاز التسجيل، عرفت ما وراء تلك التمتمة التي تحرّك شفتيه طيلة أيّام وقوفي على مقربة منه.

كان قد باح بكلّ شيءٍ، وهو يكرّره عدّة مرّات، لم أستطع تمالك نفسي وأنا أستمع لصوته المجروح، فانهمرت الدموع حبّة بعد حبّة.

(أبي أنا هنا.. هل تراني؟! هذه أمّي! هه أمّي، أخي، حيدر البطل.. البطل مات، وأنا أبحث عن قبره، أريد البكاء عليه ورشه بالماء.. اللعنة، اتركني أيّها الجبان، اتركني، آآآخ آآخ آخ. لا لا لا. لا أريد السجن.. أتركني، أمّي ستبكي؟ البستان.. نخلتي آاه من يسقيها، حيدر حيدررر انتبه قاذفة تجاه القبة، آااه الحسين.. العباس.. يا ويلي يا ويلي، لا تضرب، لا تضرب، يا جبان، النصر لنا، النصر للانتفاضة.. اصرخ يا حيدر لنصرخ (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد) يا حسين.. ياحسين.. يا مهدي حيدررر انتبه.. آآخ رأسي.. حيدر تعال.. أين أنت حيدر؟!

الصرخة على صدري ثقيلة، إلى أين تأخذني يا جبان؟

اقتلني.. يا مهدي.. يا مهدي. آآخ لا تضرب)، أيقنت بعد نهاية التسجيل أنّ عقيل لم يكن مجنونًا، لأنّ الجنون في حبّ الحسين عليه السلام هو العقل بعينه.


(من مجموعة "ضحكات شوبنهاور السعيد" الحاصلة على المركز الثالث

 في القصة)