{الأثر} بين السحر والمعنى

ثقافة 2024/05/20
...

  ياسين طه حافظ


أصغي باحترام باهتمام المتوقِّع، لأولئك الذين يجلّون ما أبقاه لنا السلف أو ماورثناه من ناس عاشوا قبلنا وتركوا ما يفرحنا العثور عليه. أوانٍ نادرة الصنع والزخرفة وأبنية نجد في معمارها ما يثير عجباً ورسوماً وكتابات.

نريد الاحتفاظ بما تبقى من العصور. وندعو الدولة والمؤسسات المعنية وأهل الثقافة، بالتآزر لفعل شيء يبقيها، بل وأن يجددوا بعضها- والتجديد هنا يعني الترميم والصيانة- بهذا التحول، بدأت المشكلة وسيتخذ حديثنا عنها اتجاهاً آخر، نرى فيه تصويباً ويرى غيرنا فيه مشاكسة وخلافاً.

قبل أن أواصل الكلام، أسأل لماذا صار "أثراً"؟ الجواب لأن زمنه انتهى وناس ذلك الزمن غابوا ونحن في زمكانٍ بعيد عنه. وجدناه وقد أكلته الرياح والأنواء وكفّت العناية به وغاب ذكره. فهو سينسى. وسنين كافيه لأن يتهاوى ويحضي رونقه ويصيبه، أو بعضه، التلف. 

حتى الآن المسألة طبيعية، فلا اعتداء ولا طارئ غريب، ولا ما يحول دون ما نقول. لكن لماذا نريد إحياءه ولماذا نريده يبقى ولا يختفي، ولم يعد كما كان من قبل يراد له، مكانَ عمل أن كان مبنى، أو قصراً لقائد أو حاكم. يمكنك اليوم أن توفر ما هو أفضل وأقوى حماية وأجمل؟

الجواب، نريد لكل قديم حرساً وندعو لحمايته والحفاظ عليه، لأنه، كما يقول الشعراء لم يخلُ، ما يزال يحمل، لمسةَ خلود، نتشفع بها ونفرح لبقائها ولا نريدها تغيب كما غاب عنه وعنا الكثير. وقد يأتي القول بكلمات أخر هل هو يحمل بقيا حياة غابت وناس غابوا وحقائق غابت وجمال غاب! نعتز به ونفرح، لانه ما يزال له طاقة كشفٍ. وما تزال الاثار تمتلك وتشع بمعان نادرة امتلكته عقول ازمانها. عدا هذه، ومن دونها، ستبقى كل الخرائب واللقى مما لا يضر ولا ينفع غير شفاعة قِدَمهِ او عِنْقه. والقِدَم وحده ليس فخراً ولا معجزة. الفخر بالقدرة على الإيحاء بديمومة الاشعاع بالمعاني، والفرح الكبير بالندرة والامتياز. فليس كل قديم مجيداً. وليس كل قديم مهماً. المهم هو ذاك الذي اشدنا بمزاياه، ذلك الذي تلتمع ظلمته بسرّ ومضامين..

وفهمٍ للأثر مثل هذا الفهم، أو التقدير، يحتاج إلى وقت خاص، نباهة خاصة وثقافة تكشف فيه آصرةً تصله بما عندنا، تجد له صلةً بممتلكاتنا او شيئاً يثير كوامن ومعاني راقدةً عميقاً فينا.

وهو، في حال ما، قد يتحول رمزاً نعجب بطاقة ايصاله سراً ما بحياتنا، عفواً بوجودنا. وأهم من هذا وذاك، هو يظهر لنا انتصارات على زمنه وزمننا، انتصاره المبهج على الفناء هو انتصار لنا، هو بارقة بديل على كل الخسارات واستمراريات الفناء بأشكاله!

ثمة سرّ آخر، نسأل عنه، في القديم المؤثر، في غرابته وحضوره، مثلما في استمرارية بقائه. هل نبحث عن الأرواح في زمن ازدهاره أم نبحث عن الحقيقة الضائعة في غموضه؟ هل أظهرَ كل ما خفي عنده ام ما يزال يحتفظ بما لا يريد كشفه؟ وكم نرى من خلاله العالم الذي جاء منه؟ ام نحن نفرط في الثناء عليه أو التقدير وأننا نبحث هنا وهناك، نتشبث بشيء يضيء كآبتنا، ويمنحنا عزاء عن حقيقتنا حتى اننا نتطلع إلى اكوام الحجارة، وبقايا الجدران، وبقايا قبور ناس كانوا مثلنا احياء وغابوا؟ يمكن اعادة السؤال بعيداً عن التجلي اللغوي أو الصوري، قريباً من التماسّ الروحي، الحميمي، ما بين أرواحنا وأرواح الماضي، فهي فسحة ملائمة لمقتنيات فكرنا لان تكون متواصلة، أن تكون حالاً مكملاً، فنحس بمتعة الانتماء واستمرارية وجودنا المشترك. هل يفتقد الإنسان بعضاً من نفسه، روحه، مشاعره، فتسعفه الصدفة بملاقاة ما افتقد أو ارتاح لشبيه؟ 

ما تزال أمامنا فرص لنسأل أو لنتأمل قديماً يستوقفنا. ولعل الأخيرة من ملاحظاتنا ما لا يمكن تخطيه: فيرد اهتمام آخر ذو طبيعة أخرى: ما هي حقيقة ما تراه جميلاً؟ ألانه أثرٌ وبُقيا أزمنة؟ ما الذي يلفتنا فيه فنهتم؟ هل هو جوهر جمالي؟ وهذا الجوهر الجمالي، مما يؤكد نفعية او سرّية نظام ام اتجاه مدى فكري، أو مثار هموم روحيه؟ وهل في تناسق تكوين الشيء ايحاءات نتشوق لها؟ لماذا أهتم ببوابة بابل مثلاً؟ هل لريازتها، لتصميمها، لحضور الحياة المتحركة عليها، أم لأنها حسب باب لها جمالية ترحيب تبشّرنا بوصول وتَعِدُ بما يسرُّ بعدها ويرضي؟

وأخيرا هل تتفتح إنسانيتنا أكثر فنسعد لأن مَنْ قبلنا وجدوا لهم باب دخول مبهجة ومرحّبة بعد قلق وخوف أو بعد متاه؟ أم أننا، نحن، وجدنا فيه غنى يعوض عن فقرنا وبقاء جميلاً تحدّى تهديدنا الدائم بالمغادرة والزوال؟ لا تنتهي الاسئلة ولا تنتهي الاجوبة. 

بقيت مسألة، وإن تأخرت، واجب اثارتها والمقال في نهايته، تلك هي أن "أثر" الماضي يتناوب موقع تأثره أو تأثيره، حسب مكمن إثاراته، هل هي التجربة الدينية أم الخبرة الجمالية أم سواهما غامضٌ لا نعرفه؟ فمرةً نحس بظل من ايمان ونحن نتأمل اعجازه، ومرة نلتمس مدّخراً لخبرة جمالية علينا حمايتها مثلما كان علينا النظر لتكوينهِ، أو لدهشتنا بوجود قطعة من الازل؟ وفي الحالين، ونحن ننظر اليه بلطف روحي، تمر على صمتنا ظلال شِعر قديم، حتى توقظنا "العلمية" بصرامتها فيتوقف الحدس لنصحو، ولنبدأ التفكير بالمادة أو المواد المصنوع منها.