د. سمير الخليل
وفقاً للإشارة السيميائية والايحائية للعنوان تحيلنا رواية {انتحار تكتيكي} للكاتبة تهاني محمد الصادرة عن دار أبجد- الحلة 2024، إلى عالم مكتظ بالموت ومأزوم بالحرب والقبح والصراع العدمي ويناظره، أو يوازيه الفعل الإنساني والتوق إلى الحرية والتناغم الذي تمثله الشخصيّات المركزية: حسين، وندى، وعلي وسارة، وهذا التقابل الثنائي بين الشخصيّات عبّر عن دلالات فكريّة وإنسانية مثلت النسق التشفيري في الرواية.
تناولت الرواية بعض الأحداث التاريخية ويوميات الشخصيّات المركزية وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، وقد ظهرت القصدية على مستوى الثيمات المتعدّدة من احتواء أو التصدّي لمرحلة تاريخيّة مأزومة بدأت بمنتصف الثمانينات، وفي ذروة حرب الثماني سنوات، وانتهت بمرور أكثر من عقد لوقائع الاحتلال المارينزي وقوى التحالف الدولي وإسقاط النظام التوتاليتاري الشمولي.
سنختزل المتن الحكائي للرواية وتجسيد عناصره لكي تتيسر لنا على مستوى المقاربة النقدية تناول ودراسة الظواهر الفنيّة والتقنيات السردية التي ميّزت الرواية وجعلتها تتخلّص من البناء التقليدي والمباشرة والتراكم المضموني والخطابي ومحاولة توظيف التاريخي باتجاه المعالجة الفنيّة، وعدم الانزلاق إلى التعبوية والهتافيّة التي غالباً ما تنزلق إليها الروايات التي تتناول الحرب ووقائع الاحتلال وظواهر التأزّم الداخلي والاحتراب المكوّناتي الطائفي الذي شهده العراق بسبب إفرازات الاحتلال البغيض.
تبدأ أحداث الرواية بما تعرض له (حسين) وهو ملازم (احتياط) في الحرب (العراقية- الايرانية) ولجوئه إلى اصابة ساقه برصاصة لكي يتحرّر من الحرب وينجو من بشاعتها، لكنّ الأحداث تقوده إلى ما هو غير متوقع، حين يزّج بالسجن ويعاني التعذيب بتهمة الخيانة، وهذا ما يجعله يتخلف عن خطبة حبيبته (ندى) التي تعاني من ضغط الأم وإجبارها على الزواج من العقيد (سلام) ابن خالتها (سناء) في منطقة اليرموك.
وتحدث القطيعة بينهما، ويضطر حسين للزواج من امرأة أخرى هي (سلمى) وينجب طفلاً سمّاه (علي) الذي يتميّز بذكائه وتفوّقه في كليّة الهندسة ويعيّن معيداً فيها، ويرتبط بعلاقة حب مع فتاة جميلة اسمها (سارة) وهي إحدى الطالبات اللاتي يتردّدن عليه، ويتعرض علي للاختطاف من قبل العصابات والملثّمين، في حين تتعرّض (سارة) وأهلها إلى التهديدات كونهما في الأصل من الموصل، وتشاء الأقدار بعد أن يخطب (علي) (سارة) أن يكتشف (حسين) أن (ندى) حبيبته التي فرقته عنها الأقدار هي أم سارة وتلك من المفارقات القدرية التي تعتمد الصدفة، ويتعرّض حسين في نهاية الرواية إلى الخطف والموت ويقرّر (علي وسارة) أن يسمّيا التوأم الذي رزقا به باسم (حسين وندى) تخليداً لقصّة الحب التي اخترقت التصنيف الطائفي وزاد من عمقها ومعناها ارتباط واصرار (علي وسارة).
وتمكّنت الرواية من إدانة الحرب وإدانة البشاعة وصنوف التعذيب في زنازن الدكتاتوريّة والنظام الدموي (الأوتوقراطي) كما أدانت وفضحت ظواهر الخطف والعصابات الطائفية التي لا تمثّل جوهر وحقيقة المجتمع العراقي بدلالة الاقتران والحب بين الشخصيّات المختلف الانتماء، وقد سعت الكاتبة لتوكيد هذا المعنى من خلال التوكيد على أسماء الشخصيّات: حسين، علي، ندى، سارة، وقد وظّفت الرواية عدداً من التقنيّات السرديّة لاحتواء هذه الثيمات وتجسيدها على المستوى الدلالي والتعبيري.
ارتكز البناء الفني بمجمله على استخدام تقنيّة تعدّد الأصوات (البوليفونية)، وتوزّعت فصول الرواية على أصوات منفردة تنطلق كلّ شخصيّة من بوحها وعالمها الذاتي للإشتباك مع الواقع ومع الآخر وهي تنظر إلى الواقع بمنظور الذات وتحول الراوي إلى راوٍ متماثل حكائياً – أي مشارك – بحسب مفهوم ومصطلح جيرار جينيت، وتحوّلت فصول الرواية إلى مساحات للبوح والفيض الذاتي وأسلوب وعي الذات وتداعيات التمركز والانفتاح ليشكّل البناء الكلّي، وقد رصدت فيها الواقع السياسي المأزوم و(افرازات الاحتلال) وظواهره البغيضة – بلغة شاعرية معبّرة وموحية- بتقويض المنظومة الاجتماعية وخلق أجواء التناحر وجسّدت الرواية بشاعة وتسلل قوى (الظلام الداعشي)، و(عصر الملّثمين) و(الجثث مجهولة الهويّة)، حتى أن الواقع أصبح برمّته بلا هوية وبلا كينونة مستقرّة ومتناغمة، "لا صباح في وطن تطفح فيه البالوعات مع أوّل هطول لغيمات سمائه الحبلى بماء الموت الأسود، فكيف لشفاه الورد أن تبتسم وهي تحمل نعش الأحلام وتصلّي عليه صلاة بلا سجود، عند كل فجر وزوال؟ واليتم يتقاطر على الوجنات الشاحبة مُزيحاً بكلّ وقاحة قطرات الندى، أمّا ما تبقّى منا فهم هؤلاء الهائمون على وجوههم ليتحفون السماء ويفترشون التراب". (الرواية: 168).