مراجعات تقويمية في جدليات النهضة العربية
جواد علي كسار
بحسب ظني ليس ثمة في تأريخ الأمم والشعوب الحديثة والمعاصرة، جدليات أعرض وأطول من جدليات النهضة في العالم العربي.
إذا أخذنا بالبداية التي تؤرّخ لانطلاق الكلام عن النهضة وتحسّس واقعنا المتخلف، مع لحظة المبعوث الأزهري إلى باريس الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801 - 1873م) أو مع عصر النهضة في الفكر العربي قريناً بغزو نابليون إلى مصر سنة 1798م،
بحسب آلبرت حوراني (1915 - 1993م) ومن تابعه في اتجاهه بل مدرسته؛ أو مع صدمة الحداثة على وفق وصف علي أحمد سعيد (أدونيس) فسنكتشف ببساطة رقمية مذهلة مرور قرنين من الزمان وأكثر على أول علاقتنا مع النهضة، وسؤالها العتيد: لماذا تخلفنا وتقدّم الآخرون؟
قرنان وسؤال واحد!
قرنان من الزمان هي بلا ريب مدّة طويلة جداً لسؤال واحد، ولو كان بمنزلة سؤال النهضة في شرعيته ومعقوليته وجدواه. وأيضاً حتى مع تكرّر هذا السؤال وإعادة طرحه بلبوس متجدّدة، تلتئم صيَغهُ وتتناغم مع تحقيبات مراحل تطوّر الفكر النهضوي العربي، وما مرّ به من أطوار متعدّدة.
فمع أول إرهاصات النهضة وبواكيرها الأولى، انطلق السؤال واضحاً مباشراً: لماذا تخلف العرب والمسلمون؛ ولماذا تقدّم الغرب؟ ثمّ ما لبث أن اكتسب في الطور الثاني؛ طور الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة، أبرز صيَغهُ شيوعاً: كيف ننفتح على الحداثة والمعاصرة، ونتمسّك بالوقت نفسه بذيول الأصالة ولا نضحّي بالتراث؟
في ظلّ الاجتياح الواسع للاتجاهات الحديثة لاسيّما في المدرسة الفرنسية، كالبنيوية والتفكيك وحفريات المعرفة وما بعدها، دخل الفكر العربي النهضوي في طور جديد من العمل على هذه المنهجيات، فشهد مشاريع واسعة على صعيد نقد العقل، وتفكيك الخطاب، وإعادة قراءة نصوص التراث على نحوٍ عام، إلى التحليل على أساس النزعات الأبوية الشكلية والجذرية، وتوظيف التحليل النفسي وعلم اجتماع المعرفة وغير ذلك؛ لتعطي هذه الاتجاهات والنزعات والنسقيات المنهجية مجتمعة، شحنة قوية للتنظير إلى سؤال النهضة، وإعادة إنتاجه بلبوسٍ وصيغ جديدة، عبر مشاريع قد لا نُبالغ بالقول إنها بلغت العشرات مجتمعة! (يُنظر في توصيف هذا المنحى ونقده هشام شرابي، في كتابيه: النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي؛ النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين).
لقد كان أقلّ من هذا يكفي في تحقيق نهضة فعلية على الأرض العربية وفي بلاد العرب، لو كانت المشكلة ترتبط فعلاً بالحاجة إلى نظرية للنهوض، ولو لم يتحوّل التنظير إلى حاجة قائمة بنفسها، ثمّ إلى دوّامة متغوّلة تعيد إنتاج محتواها باستمرار، وتستهلك ثمار العقول دون ملالة أو تعب، وهي تشحن الساحة بأوهام التنظير وغواياته، وتملؤها بأصنام المنهج ووثنياته، وأساطير التفلسف وخرافاته؛ مما لا صلة كبيرة تربطه بالواقع المعيش، ولا جدوى تُرجى من ورائه للإنسان العربي ويوميات حياته.
أمثلة ودلالات
لا أريد الدخول بالأمثلة والشواهد وتفصيلاتها على ما أنتجته عقول العرب والمسلمين، من أسس للنهوض والرقي والتقدّم كان الالتزام بأيسرها، يضمن تغيير الواقع ومغادرة التخلف. فلو توفر شرط العمل من بين لوازم أُخر، ووُضع قيد صارم لنهاية جدليات النهوض، لكفتنا أسس ومنظومات قويمة، أطلت علينا مطلع العصور الحديثة مع الطهطاوي وخير الدين التونسي (1810 - 1899م) وجمال الدين الأفغاني (1739 - 1897م) وعبد الحميد بن باديس (1889 - 1940م) ومن والاهم من الرجال المصلحين؛ واكتسبت صيغة مركبات منظمة ومعادلات للنهوض واضحة، كما عشنا أمثلة لها مع منظومات مالك بن نبي (1905 - 1973م) ومحمد باقر الصدر (1935 - 1980م) ومنير شفيق (معاصر، ولد: 1934م) وأضرابهم من كلّ الاتجاهات والمشارب.
لو حصل ذلك لكانت عندئذ أطاريح صاحب “أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث” (فهمي جدعان)، و”مقومات النهوض الإسلامي بين الأصالة والتجديد” (عامر الكفيشي)، والقراءات التحليلية النقدية للخطاب العربي النهضوي كما تجلّت كمثال، في عمل: “تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي”، و”الفكر العربي وصراع الأضداد” (كلاهما لمحمد جابر الأنصاري)، و”الخطاب العربي المعاصر” (محمد عابد الجابري المتوفى: 2010م)؛ أقول لو حصل ذلك، وكانت المشكلة فكرية نظرية معرفية حقاً، لكان هذا الذي بين أيدينا وأمثاله بالعشرات والمئات؛ قمين بتحقيق نهضة عملية في واقعنا الحياتي المعيشي وأوضاع بلادنا، تتجاوز فيها على الأقلّ الحدود الدنيا للتخلف، وتدخل إلى مصاف الدول المتقدّمة والبلدان الراقية، ولو من الدرجة الثانية وأحياناً حتى الثالثة، إذا ما قارنَّا أنفسنا مثلاً بأوضاع بلدٍ كبلدنا العراق.
بلاء المقت
لقد أبتُلينا بـ”المقت” بعد أن استدرجتنا أنفسنا السقوط بوباء قلّة العمل وكثرة الكلام وطغيان الثرثرة التنظيرية، بل أحياناً ترك العمل بالكامل والاتكاء إلى الكلام وحده: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2 - 3) عندما ضللنا طريق الفعل والمبادرة والعمل وصرنا أُسارى الجدل ووثاقه، وقد نُسب إلى النبي صلى الله عليه وآله، قوله: “ما ضلّ قوم إلا أوثقوا الجدل”، كما نُسب إليه أيضاً: “ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”.
وما دام الحديث قد بلغ هذه التخوم، فما أصدق من قال وصفاً ينطبق على حالنا: “إذا أراد الله بقومٍ شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل” (يُنسب إلى عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، المتوفى سنة 157هـ)؛ وما أروع ما (نُسب إلى معروف الكرخي، المتوفى سنة 200هـ)، من قوله: “إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح عليه باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل. وإذا أراد بعبدٍ شراً أغلق عليه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل”، لله درّ هذه الأقوال ما أصدقها، وما أدقّ انطباقها علينا وعلى أوضاعنا.
تجارب العالم
تكبر هذه المفارقة وتتحوّل إلى خلل كبير، عندما نقارن أوضاعنا برؤىً سريعة عابرة مع تجارب بلدان العالم من حولنا. فقد خرجت اليابان مثلاً من عزلتها ومحليتها إلى نطاق الإقليمية والعالمية على صارية عصر نهضوي واحد، مختزل زمنياً ومكثّف مضمونياً، هو عصر (الميجي)، إذ استطاع هذا العصر بمنجزاته، دفع اليابان إلى قلب العالم الحديث، عبر ركائز ثلاث هي: بناء الدولة المركزية، والاقتصاد الصناعي، والجيش العصري، كلّ ذلك في برهةٍ زمنية قصيرة لم تتعدّ نصف قرنٍ من الزمان، على عهد الإمبراطور ميتسو هيتو (في السلطة: 1868 - 1912م).
ثمّ أعادت اليابان الكرّة مرّة أخرى بعد إجبارها على الاستسلام وإعلان هزيمتها، إثر ضربها بالقنبلتين النوويتين نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، واحتلالها وتحوّل ناصية أمورها إلى الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر كحاكم وقائد أعلى لقوات الحلفاء. فلم يكد يمرّ وقت طويل على الهزيمة والاستسلام والاحتلال، والموت الناشئ عن دمار الحرب والنووي، وحلّ الجيش وانهيار الاقتصاد، واتساع رقعة الحياة الاجتماعية والتربوية والنفسية البائسة، حتى استعاد البلد قوته سريعاً بمعادلة نهوض شديدة الدقة تجمع جذور التقليدية اليابانية إلى التحديث في نطاق استمرارية واحدة (يُنظر في خصائص اليابانية التقليدية وجذورها التكوينية المشتركة: اليابانيون، أدوين رايشاور، عالم المعرفة، 136. كما يُلحظ أيضاً: التقليد والحداثة في التجربة اليابانية، عبد الغفار رشاد، مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت 1984م) وتحوّل إلى واجهة العالم مجدّداً في غضون خمسة عشر عاماً فقط، وراح الاقتصاد الياباني ينافس الألماني على احتلال المرتبة الثالثة في اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت أميركا تتربع على الموقع الأول، وكان الاتحاد السوفياتي لم يزل يُجاورها على الموقع الثاني يومذاك (يُنظر في بعض أطوار الصيرورة اليابانية وأشواط نهضتها لاسيّما الثقافية والنفسية والمعرفية: اليابان رؤية جديدة، باتريك سميث، عالم المعرفة، 268).
نهوض ألمانيا
على ذكر ألمانيا - وهي تجربة فذَّة في النهوض - فقد دفعت ثمن هزيمتها كبيراً نهاية الحرب العالمية الثانية، بهلاك 20 بالمئة من سكانها، ودمار نحو ثلاثة ملايين مسكن، وخراب معالمها وصناعاتها، وحلّ جيشها وسرقة علمائها والعقول النابغة من أبنائها، والأمضّ من ذلك تجزئتها إلى دولتين، لم تكد تمثل صاحبة معجزة النهوض فيها؛ ألمانيا الغربية إلا أكثر قليلاً من نصف ما كانت عليه مساحتها قبل الحرب، أو ما يعادل مساحة نصف فرنسا فقط.
مع ذلك فقد قطعت الشوط سريعاً صوب تقدّمها ورقيّها، وراح شعبها يكافح في سبيل رخائه وازدهاره، فتجاوز في غضون سنوات سبعٍ فقط الخسائر السكانية والاقتصادية الأولية للحرب، قبل أن تعود إلى الواجهة مجدّداً وتصعد سريعاً من الصفر وما دونه إلى الازدهار في أقلّ من ربع قرن، وتحجز الموقع الثالث على أرقى الاقتصاديات العالمية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حتى إذا ما ذكر مصطلح “المعجزة الاقتصادية” فقد كان ينصرف يومئذ تلقائياً إلى اليابان وألمانيا، قبل أن تحتكره الصين (يُنظر في بعض تأريخيات النهضة الألمانية وأرقامها: قضايا عصرنا منذ عام 1945م، تعريب د. نور الدين حاطوم، 711 صفحة من الحجم الكبير).
قصة الصين
الصين ونهضتها قصةٌ من فصولٍ قائمة بنفسها. فبعد الانهيارات المريعة اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً وسياسياً، نتيجة الثورية الشعارية وجهالاتها على عهد ماو تسي تونغ (1893 - 1976م) ما لبثت الصين أن شقّت طريقها للنهوض عبر العودة إلى مرتكزات الموروث الصيني وتراكماته التأريخية، منفتحةً على العالم وفي طليعة ذلك الغرب الأميركي، من خلال تعديل نهج “ماو” ومحاصرته وتذويبه واستئصال أنموذجه في الاقتصاد والسياسة نهائياً، واجتثاث (الماوية) وأضاليلها وأوهامها، وضرب حرفياتها الماركسية الجامدة والقاسية والمتخلفة، ووضع حدّ للعسكرة الاقتصادية والتحوّل من عسكرة الاقتصاد إلى تنمية الاقتصاد، لتكوّن هذه العوامل مجتمعة منعطفاً حاسماً لبداية تأسيسيات النهضة الاقتصادية الكبيرة، وقد اقترنت مع القائد الصيني والتنموي الكبير دينغ شياو بينغ (1904 - 1997م) الذي وضع أسس المسار التنموي الجديد، وشيّد مرتكزات نهضة الاقتصاد الصيني إبّان مدّة حكمه (في السلطة: 1978 - 1992م).
ها هي الصين تواصل أشواطها لتستقرّ اليوم عند نقطة الاقتصاد العالمي الثاني بعد الولايات المتحدة الأميركية، وبناتج إجمالي يلي الناتج الإجمالي الأميركي مباشرةً ويكاد يقاربه، وهو يدق تخوم الـ(18) ألف مليار دولار، وينافس بشراسة ليتخطى الاقتصاد الأميركي ويتربّع على قمة اقتصاديات العالم في غضون ربع قرن قادم من السنين فقط؛ أي في حدود 2050م، تماماً كما خطّط لذلك القائد العظيم (دينغ شياو بينغ) عندما رسم خطة لنهوض الصين اقتصادياً من الصفر إلى قمة الهرم العالمي، وتوقّع حصول ذلك في غضون نصف قرن فقط.
هذه أمثلة كبرى مررنا عليها مرور الكرام، وإذا كان البعض يُخدش بحجيتها في المقارنة مع مسار بلدنا والعالم العربي، فما أسهل أن نحيل إلى تجارب أقرب إلى بلدنا ومحيطنا العربي في الفرص والإمكانات بل وأقلّ منها، لا يمكن دحضها أو النقاش فيها أبداً، كما حصل مع تجربة النمو الاستثنائية في ما يُعرف بـ(نمور آسيا) بقيادة ريادية لتايوان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافورة.
كذلك ما شهده “المحور الأعجمي” من العالم الإسلامي بحسب تسميتي، إذ سجّلت بلدان عديدة على هذا المحور، تجارب متقدّمة في النهوض والتنمية كما هو الحال في (ماليزيا وإيران وتركيا)، واليوم (إندونيسيا) وبعض بلدان وسط آسيا وحتى (باكستان)، مضافاً إلى التميّز الخاص الذي اتسمت به تجربة (الهند) وغيرها من التجارب والبلدان، حتى بدأت الأخيرة وكأنها أمة من العباقرة.
حدود المعرفة
لم أفكر قطّ بالتقليل من مكانة المعرفة أو الخفض من قيمتها، ليس في النهضة والتنمية وما يلابسها من أبعاد في السياسة والثقافة والاجتماع وحسب، بل في كلّ شيء، وما أروع العلوي الشريف وما أرفع ذراه، والإمام أمير المؤمنين يهتف بنا: “ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة”. وكذلك قبله النبوي الشريف: “إذا عملت عملاً فاعمل بعلمٍ وعقل”، ذلك لأن: “قليل العمل ينفع مع العلم، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل”.
في الميراث المعرفي للمسلمين حثّ شديد على العلم قبل العمل، وإلا تحوّل العمل إلى خسارة ووبال، ومراوحة في المكان نفسه والحركة في النقطة ذاتها، هذا إن لم يُبعدنا عن المقصد، إذ يقول الإمام أمير المؤمنين في معادلات ممتلئة بهذه المعاني، صارمة دقيقة في دلالتها، منها: “لا خير في عمل بلا علم”، و”عمل الجاهل وبال”، و”العمل بلا علم ضلال”.
في نصٍ آخر وأخير من هذه المقتبسات المعرفية النافذة المضيئة، يضع لنا الإمام نقطة ارتكازٍ تُوازِن الحركة بين التقدّم والتراجع، وبين السير إلى الأمام والنكوص إلى الخلف، من خلال موقع العلم، وهو يقول: “إن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلا بُعداً عن حاجته. والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح؛ فلينظر ناظر أسائرٌ هو أم راجع”، (يُنظر: العلم والحكمة في الكتاب والسنة، محمد الريشهري، مؤسّسة دار الحديث). هذه هي حدود المعرفة، فالمعرفة هنا ضرورة عقلية وشرط منطقي لولادة أي فعل أو حركة، بيدَ أن ذلك لا يعني مطلقاً أن الفكر هو الفارس الوحيد الذي يجول ويصول في الساحة. فمشكلة بلدنا العراق والعالم العربي والإسلامي عامة، ليست مشكلة ثقافية نظرية وحسب، ومن ثمّ لا يمكن حلّها وتجاوزها بمجرّد إبداع نظريات محضة، مع إهمال شديد لوقائع الحياة وتحدّيات الداخل والخارج. لا يعني هذا الكلام بتاتاً نفي الأسباب الفكرية للأزمة، فالظاهرة المعقّدة التي نعيشها لها أسبابها في بيئة العقل، وفي الموروث التاريخي الذي يرزح بيننا بسلبياته وإيجابياته، وفي التحدّي الغربي، وفي البيئة الاجتماعية والسياسية المركّبة التي نعيشها.
لكن الظاهرة التي تلفت النظر هذه الأيام، هي توجّه قطّاع من الإسلاميين إلى البحث عن أسباب الأزمة ومظاهرها وبعد ذلك سبُل علاجها، في الفكر وحده حتى غدا الفكر بديلاً عن أيّ عمل آخر.
لا ريب أن الساحة الإسلامية تحتاج إلى مراجعات نقدية جذرية وإلى فكر عميق، لكن أن يستهلك الفكر كلّ الجهود، ويغطّي المساحة برمّتها حتى ليبدو بديلاً عن العمل، فهنا بالذات تكمن المشكلة، وتنتهي المحصلة إلى نتائج ضارّة تغيّب الواقع، وتجمّد حركة الإنسان المسلم وتعود على المسار الذي يخوضه العالم الإسلامي الآن بأفدح الأضرار. للفكر موقعه وللعلماء والمفكرين والمثقفين دورهم الذي ينبغي أن ينهضوا به، شرط أن يتمّ ذلك بدون تطرّف وبشكل يتوازن مع حاجة الواقع نفسه.
كلمة أخيرة
نخلص للقول إنه ليس بالفكر وحده نتجاوز واقعنا، بل علينا أن نوفّر على الأرض سبُل التقدّم وأسباب الرقيّ وفرص الحركة والتغيير، وأن نجتثّ العقبات التي تحول دونها، وهذه جميعاً عناصر لا تنتهي إلى الفكر وحده، كما أنها لا تتمّ دون فكر، فللفكر موقعه وهو شرط للشروع بأية خطوة.
أيضاً لا نستطيع أن نغيّر واقعنا بالنقدّ وحده، فالواقع العربي - الإسلامي مثلاً لا يتغير بنقدّ الغرب وتقصّي عثراته وتسطير النبوءات بحقّ أو عن غير حقّ، بانهياره أو تعرّضه لصدمات.
كما لا يمكن تغيير الواقع كذلك بعقلية الإعلان وبالاستناد إلى منهج الشعار وحده، إنما نحتاج إلى بذل الجهود في التأسيس واستفراغ الذمّة بالعمل، فالعمل أبرز العناصر الغائبة في واقعنا؛ ما أكثر كلامنا وما أقلّ عملنا!