الأدباء.. عُزلة قسريَّة أم تفرّغٌ لمشروع إبداعي؟

ثقافة 2024/05/21
...

  سلام  محمد البناي

يغيب الكثير من المثقفين والأدباء عن النشاطات الأدبية مدّة من الزمن، فيترك هذا الغياب فراغا كبيرا وتساؤلات بين زملائهم عن دوافع هذا الغياب أو الانزواء فالبعض يعزوها لأسباب شخصية و الرغبة في العزلة ، فيما يعده البعض تفرغا لإنتاج مشروع أدبي جديد. وربما هناك أسباب أخرى تتعلق بالواقع الثقافي الذي جعل من الأديب يشعر بالإحباط وعدم  فائدة ما يكتبه. وقد تكون هناك أسباب أخرى تدفع الأديب إلى الغياب واختيار العزلة والانزواء، وهذا ما سنتعرف عليه عبر هذا الاستطلاع الذي أجريناه مع عدد من الأدباء لمعرفة آرائهم بهذا الموضوع.

معضلة الحضور
الباحث حسن عبيد عيسى يشير إلى أن ضمان الحضور للأنشطة والفعاليات الثقافية معضلة يعاني منها القائمون على تلك الانشطة. ويتذكر عيسى وهو قائلا إن "صديقنا الاكاديمي المرموق والباحث المرحوم الدكتور صباح المرزوﮒ، وهو بصدد تأسيس جمعية ثقافية، كان يحاول أن يحصل على التزام من أكثر من خمسين مثقفا حلّيًّا بحضور أنشطة جمعيته".
ويضيف: أنني قبل أشهر وخلال مداخلتي في نشاط ثقافي أقيم في مقهى قلت إن أغلب المثقفين الآن جلوسٌ في المقاهي؛ حسنا هنا أيضا مقهى وفيها ثقافة متاحة للجميع فما يعيق حضوركم، وما يحول من دون أن تستبدلوا مقاهيكم بهذه؟
ويوضح عيسى أنني أحكم على ثقافة المثقف بكم حضوره إلى أنشطة المشهد الثقافي وتفاعله مع مجرياتها. أما أن يقضي وقته في مقهى أو ما شابه، فذاك دليل على أن الثقافة عنده ترفٌ وليس حاجةً فرديَّةً واجتماعية، وهو طارئ على الثقافة وغير معني بها. وطالما طالبتُ زملائي في اتحاد أدباء وكتاب كربلاء، ألا يضمنوا مناهجهم أماسيَّ لأشخاص لا يترددون على الاتحاد ويساهمون في أنشطته، فلا حاجة لنا بمن لا يرى في أنشطة المشهد الثقافي بيئة صحيحة له يتفاعل فيها ويستفيد ويفيد.

عزلةُ الإبداع
وتساءل القاص والروائي علي حسين عبيد: ماذا نعني بالنخبة من الأدباء؟ فيجيب "في ظنّي أن المقصود هم أولئك الذين أمضوا سنواتٍ طويلة من أعمارهم في الكتابة الأدبية بمختلف أبعادها وأجناسها، وهذا يعني أن أعمارهم كبيرة نسبيا، ويفترَض أن يكونوا قد تجاوزوا الخمسين من العمر" .
ويعود عبيد ويقول إن "الأسباب المذكورة في السؤال كلها واردة، وقد يكون أحدها صحيحا أو كلّها، وقد تجتمع هذه الأسباب معاً لتصبح مانعا أمام حضور أديب مخضرم للنشاطات الأدبية؛ وهذا لا يعني أنني متفق معهم على عدم الحضور، ولكنني أسجل رأيي كما جاء في سؤال الاستطلاع".
ويضيف: أنا شخصيا مررتُ بأكثر من حالة انقطاع، الأولى بدأت في 2007 عندما عدتُ من المغرب بعد محاولة فاشلة للوصول والعيش في أوربا تحت هاجس حلم تأكّد لي فيما بعد بأنه كان وليد الغرور والطيش وعدم التقدير الصحيح للحياة، وحين عدتُ صُدمت صدمة هائلة، جعلتني ابتعد عن أي نشاط ثقافي سنوات متواصلة، ثم بدأت العودة بالتدريج وحضرت وشاركت في أمسيات ونشاطات الاتحاد في كربلاء وفي المركز العام.
 ويتابع أن "هناك سببا آخر هو عزلة الإبداع، ويحدث بسبب الحاجة للتفرغ للكتابة الإبداعية، وبالفعل أجبرني هذا النوع من العزلة كي انقطع عن حضور الفعاليات لأخرج بأعمال تؤكد هويتي الإبداعية بعد أن ضيعت الكثير من الزمن هدرا ليس له أي داع.. وهناك سبب آخر لم أمر به ولم يكن مانعا لحضوري للأمسيات والفعاليات ومنها فعاليات اتحاد الأدباء، وهو شعور الأديب بالإهمال من المؤسسة الثقافية، وهذا أصعب الأسباب وأكثرها مرارة وأنا شخصيا لم أتعرّض له (هكذا هو شعوري على الأقل)، على الرغم من بعض حالات التهميش ذات الطابع الشخصي وليس المؤسسي، التي بدرت من أشخاص أظن أنهم أخطؤوا في محاولة إبعادي بسبب بعض الآراء المختلفة.أما آخر الأسباب فيقول عبيد: ربما يكون سبب الغياب هو تقدم الأديب في السن، وصعوبة تنقله، وسوء حالته الصحية، وغالبا ما يرافق هذه الحالة حالة أشد وأصعب وأعني بها الشعور باللاجدوى، وهذه حالة صعبة ومعقدة لا يمكن أن يفهمها من لا يعيشها أو يعاني منها، ما عدا ذلك أرى أن وجود أصحاب التجارب والأعمار الكبيرة مهم لإدامة النسيج الإبداعي المتصاعد من خلال تلاقح التجارب بين الأجيال السابقة واللاحقة.

الملل والتكرار
أما القاص والروائي ابراهيم سبتي فقد أكد أن "الأماسي الأدبية مطلب ثقافي مهم لفائدتها المباشرة لجهة التواصل مع المشهد الثقافي عامة، ولجهة عرض آخر المنجزات الأدبية الجديدة للأعضاء".
 فيما يرى سبتي أن غياب البعض عن الحضور له مبررات وأسباب عديدة منها، عدم الفائدة منها كما يعتقدون أو أنها واقع ممل يتكرر أسبوعيا، أو انها لا تصنع نجوما كما يريدون، اما السبب القاهر والصادم فهو اعتبارها اقل شأنا من مستواهم. ويشير إلى أن الحضور الأدبي فعالية مطلوبة في أي وقت، لأنها ستؤدي إلى لمِّ شمل الأدباء مع بعضهم، وهذا نوع من التلاحم الثقافي والاجتماعي. لكنه يعود ويؤكد أن العزوف عن الحضور هو نوع من الاحتجاج.
الثقافة القِشْرِيّة
ويرى الناقد الدكتور صباح التميمي أن النظر للثَّقافة بوصفها سلوكاً اجتماعيّاً ومعياراً للفرز الطبقي بين ذات مثقّفة، وأخرى غير مثقّفة، بين ذات واعية وأخرى بعيدة عن الوعي، أن هذا المعيار صحيح من حيث المبدأ، على أنه لا يُفعّل إن كانت الثقافة قِشْرِيّة، بمعنى أن (المثقّف) لا همّ له سوى أنّه يظهر أمام الآخر بزيّ المثقف، بمظهره، لتلتصق هذه الصفة به.
ويضيف  أن "هناك نشاطاتٍ أدبيةً وثقافيةً كثيرة، ينقسمُ فيها المريدون إلى راكضٍ وراء القشر، وهو الذي ينتظر الدعوات، ويطالب بها، وآخر يحملُ همّاً حقيقاً ونيّةً صادقةً لإحداث خلخلة ذاتية، وتوسيع دائرة هذه الخلخلة لتشمل الجميع.. ما يحدث في الغالب هو ثبات المعيار وعدم صدقه أحياناً، وثبات الوجوه، وفي الثابت سكون، ما يُفضي إلى عدم إحداث نقلة حقيقية، وهو ما يدفع بالكثيرين للصمت، أو الركون للهامش بعيداً عن المركز، لوثوقهم بعدم فائدة التصدّي؛ لتفشّي الثابت في جسد كثير من النشاطات". ويرى التميمي "أن الفكرة في الخلخلة، والتحريك، والتحديث، وخروج المؤسسات من منطقة الثبات لمنطقة الحركة والتحوّل، قد يقول قائل، بأن الجانب المادي على المستوى اللوجستي والتنظيمي، قد يشكّل عائقاً صلداً أمام الحركة، ما يدفع المؤسسات للثبات، فأقول:  بأن الدخول في منطقة الحركة لا تتصل بهذا الجانب فحسب، بل تتصل أيضا بالتغييرات التي تطرأ على البنية البشرية المشكلة للنشاط:  التنظيم والإدارة والحضور"
ويشير الى أن هناك بعض المؤسسات قد خطت خطوات ناجحة - من وجهة نظري على الأقل - حين أطلقت مهرجانات ونشاطات وطنية خاصة بفئة الشباب من الأدباء، كمهرجان (جواهريون) الذي نظمه نادي الشعر في الاتحاد المركزي، وكنت مراقبا بشغف لخطواته الناجحة في كل نسخه إلى الآن، هذه التجربة الناجحة أفرزت لنا تجارب شعرية شابة سجّلت حضورا فاعلا في مشهدنا الشعري، وضخّته بشعريات يافعة مخضرة جديدة، هذا المثال، ينبغي أن يكون معيارا للتحريك ومغادرة مناطق السكون والثبات في المؤسسات الأخرى القادرة على صناعة مشهد أدبي ثقافي فاعل خارج أسوار المركز.هذا السلوك قد يدفع بعض المنزوين لإعادة النظر والظهور من جديد.. والمشاركة الفاعلة.