ما الذي نحتاجه لبناء

ثقافة 2024/05/22
...

صفاء ذياب



على الرغم من الحديث عن التنوير منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبداياته في حلب السورية وطرابلس اللبنانية ومن ثمَّ الإسكندرية والقاهرة المصريتين، غير أنَّ ما حدث بعد ذلك غيّر من سياسات الفلسفة والفكر، وانطلاقة في الرواية التي بلغت ذروتها مع محمد حسين هيكل بروايته (زينب) في العام 1913، وفي هذا العقد نفسه أصدر سليمان فيضي روايته (الرواية الإيقاضية).

وبعيداً عن تفصيلات ما حدث بعصر النهضة، وشخصياته مثل رفاعة رافع الطهطاوي وشبلي الشمّيل وفرح أنطون وبطرس البستاني وغيرهم، جاءت الانتكاسة الأخيرة بعد محاكمة طه حسين بسبب كتابه (في الشعر الجاهلي) التي عُدّت نقطة انتهاء عصر النهضة وبداية عصر التطرفات بأشكالها المختلفة.


غير أنَّ ما أعاد الحديث لعصر النهضة تأسيس جماعة تكوين في القاهرة التي أثارت الكثير من اللغط من اتهامات وتسقيط وحديث عن أسباب تشكيل مركز تنويري، فإذا كان التفكير الآن بعصر نهضة جديد في لحظتنا الراهنة، ما الذي علينا فعله لبناء وسط تنويري في العراق؟

نيّات مؤجّلة

ويتحدّث الكاتب صادق الطائي عن مشروع النهضة العربية، مبيناً أن الباحثين يؤرخون لبداية النهضة العربية المعاصرة بالحملة الفرنسية على مصر، وربَّما كان أبرز مخرجاتها مشروع محمد علي باشا في مصر، وما تزامن معه من حركة ترجمة ونقل للتكنولوجيا، الأمر الذي خلق مجتمعاً ناهضاً، تزامنت مع تجربة محمد علي تجارب نهضوية في المشرق العربي مثل العراق الشام على يد بعض الإداريين والساسة العثمانيين الإصلاحيين، وفي المغرب العربي يمكن الإشارة إلى التجربة التونسية في ظل دولة البايات التي صاحبهتا نهضة فكرية واضحة.

استمرّت تداعيات النهضة وأفرزت معارك مهمة في عشرينات القرن الماضي برغم ما نال رموز التنوير فيها مثل طه حسين في أزمة (في الشعر الجاهلي)، وعلي عبد الرازق في أزمة (الإسلام وأصول الحكم)، وصولاً للستينيات، إذ يحدّد عدد من المؤرخين هزيمة حزيران 1967 تاريخاً لولادة النكوص الماضوي وهبة ما عرف بـ(الصحوة الإسلامية) وولادة التيّارات الإسلامية السلفية والجهادية التي كفّرت النهضة ورموزها، واعتبرت الخير كلّه في الرجوع إلى (الإسلام النقي) زمن الصحابة من دون طرح آليات واضحة تبيّن كيفية هذا الرجوع.

وكانت عقود السبعينيات والثمانينيات وحتّى التسعينيات، عقود صراع مريرة ومحاولة خلق تيّار نهضة جديد، وشهدنا مشاريع، في الغالب فردية ومتناثرة هنا وهناك، ويمكن الإشارة إلى أبرزها مثل؛ مشروع محمد عابد الجابري ومحمد أركون في المغرب، وجورج طرابيشي، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور في المشرق وغيرهم من الكتّاب والمفكّرين الذين حاولوا تخليص الموروث من مخالب التيّارات الماضوية والتعامل معه بعلمية وموضوعية يمكن أن تخدم الحاضر والمستقبل.

إنَّنا نشهد حالياً طرح البعض محاولات تشكيل مراكز فكرية وبحثية تتبنّى فكرة النهضة، وهذا فعل يعدُّ جيّداً بحدِّ ذاته، لكنَّ النيّات شيء ونتائج العمل شيء آخر، ولا يمكننا أن نحكم على أيِّ مشروع من أسماء الناس الذين انتموا له او حرّكوه، وإنَّما يجب أن نرى ما سينتجه المشروع وحينها يمكننا أن نحكم على الأمر بشكل عقلاني.

تجنّب الاصطدام

ويؤكّد الدكتور طه جزاع أن ما حدث في القاهرة من تشكيل تجمع تنويري عربي حرّك الأجواء الفكرية والثقافية في بلدان عربية أخرى، ومنها العراق الذي يُعدُّ تاريخياً بلد المدارس اللغوية والكلامية والفقهية والفلسفية والصوفية، التي كانت تعدُّ تنويرية في زمانها، وصولاً إلى بدايات الحركة التنويرية التي رافقت نهايات السيطرة العثمانية وبدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة. أمَّا ما الذي علينا فعله لبناء وسط تنويري في العراق؟ فإنّي أحسب بأنَّ مثل هذا الوسط موجود ويؤدّي دوراً ملموساً في العديد من الأوساط الثقافية والأكاديمية، ولاسيّما الشبابية، لكنَّه لم يصل إلى مرحلة البناء المؤسّساتي، أو الحضور الفاعل الذي يعوّل عليه في قيام حركة تنويرية شاملة وفاعلة، ولذلك أسباب عديدة تخصُّ الوضع في العراق، وأنَّ أوّل خطوة ضرورية لبناء مثل هذا الوسط التنويري تتمثّل في تجنّب الاصطدام مع تلك القوى التي ترى أنَّها تمتلك الحقيقة لوحدها، مثلما تنظر لأيّة حركة تجديدية وتنويرية بأنَّها تنفّذ أجندات أجنبية، وتدعو لمفاهيم غربية، وممارسات اجتماعية بعيدة عن العادات والتقاليد الموروثة، إن لم تتهمها اتهامات أكثر خطورة من ذلك. وتلك مهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر على المدى المحدود في أقل تقدير.

 سطوة الماضي

وبحسب الكاتب قاسم حنون، فربَّما لا يحدث هذا في بقاع أخرى من العالم، أنَّ التاريخ في بلداننا يسير القهقرى حيث تتراجع فرص التقدّم ويتعمّق الفوات الحضاري وتتسع الهوّة بينها وبين المراكز المتقدّمة وينحسر أفق التنوير وتتسع اللاعقلانية لتجد لها حضوراً صاخباً في البنى الثقافية، يدعمها تعاظم نفوذ المؤسّسات الدينية وبروز عامل جديد مع أوائل السبعينيات إثر الانتكاسات والهزائم العربية في الصراع العربي الإسرائيلي، العامل الجديد هو ظهور الجماعات الإسلامية بمختلف مسمّياتها في ما يطلق عليه حركات الإسلام السياسي، كمعادل لتعثّر المسار التحرّري وتحوّل عدد من الأنظمة العربية التي كانت في سياق الانعتاق من الهيمنة الاستعمارية ومحاولة تبنّي مشروع تنموي مستقل ذي أهداف مستقبلية، إلَّا أنَّها تواجه نهايتها المحتومة بفعل غياب الديمقراطية السياسية ومعاداة الحرّيات، لعلَّ ذلك يعود إلى ضعف قوى التنوير الناجم عن ضعف حاملها الاجتماعي التاريخي (البرجوازية) والنهاية المدويّة لبعض فصائل التحرّر العربية وخيانة الغرب الإمبريالي لمبادئ التنوير بتواطؤه مع المشروع الصهيوني العنصري، فضلاً عن ضعف قوى اليسار والتيار الليبرالي، ما أخلى السبيل أمام الحركات الأصولية الدينية فانقضّت بحماسة فائقة لتصفية الحساب مع المنجز الثقافي والسياسي الذي أحرزته شعوبنا منذ أواخر القرن التاسع عشر مروراً بمحاولات بناء دول حديثة برعاية كولونيالية في القرن العشرين ثم المآل الفاجع الذي انتهى إليه الكفاح التحرّري في بلداننا، بما يجعل النخب الجديدة تتمثّل النموذج والمسار الذي سلكته النظم المحافظة (الأنظمة الملكية ودول الخليج) في علاقتها بالغرب وتحوّلت المسألة الدينية في العراق والدول العربية والإسلامية في ظلِّ الانغلاق الدوغمائي إلى مشكلة مستعصية تعيق المصالحة مع الحداثة كما تشكّل عقبة كؤود في مسار التقدم الاجتماعي والانعتاق من سطوة الماضي.

فهم مستنير

ويبدأ الكاتب والباحث جمال الأسدي كلامه عن التنوير مبيناً أنّه يعني خروج الإنسان من قصوره العقلي الذي يبقى رازحاً فيه بسبب شعوره بالخطيئة وحالة القصور العقلي، تعني عجز المرء عن استعمال عقله بجرأة وشجاعة. فالتنوير غير مرتبط بكمّية العقل الذي يمتلكه الإنسان أو لا يمتلكه بقدر ما هو مرتبط بمدى جرأته على استخدام هذا العقل بشكل مستقل.

والتنوير بالنسبة لنا كعراقيين سوف يظهر كتلبية لحاجة تاريخية ملحّة تماماً كما التنوير الأوروبي، ولا يمكن أن ينجح إلَّا إذا نقلنا إلى اللغة العربية روائع الحداثة وفتوحاتها الأدبية والعلمية والفلسفية والفكرية. وهنا تكمن معركة الترجمة والتعريب بالمعنى الضيّق والواسع للكلمة، فلا نهضات كبيرة دون ترجمة كبيرة.

موضحاً: لكي نصنع وسطاً تنويرياً في العراق لابدَّ من احتضان وتوسيع رقعة الأصوات الاحتجاجية ضدَّ التراث المتراكم كما حصل في أوروبا مع فولتير وروسو، كما أنَّ أوّل شيء يجب فعله هو الخروج من عقلية القرون الوسطى الغيبية والمذهبية الضيّقة، وأنَّ الفهم المستنير للدين هو الذي يحرّر الطاقات المكبوتة أو المكبّلة، ومن دونه لا يمكن للحضارة أن تتشكّل ولا للنزعة الإنسانية أن تسود.

الحركات الأصولية في العالم الإسلامي وضعت الجميع أمام حقيقة وجودية لا مفرَّ منها، قوامها خيار من اثنين: إمّا الحداثة والتنوير وإمّا لاهوت القرون الوسطى. إمّا ابن رشد وكانط وهيغل، وإمّا ابن تيمية والظواهري وابن لادن، فمن يجرؤ على الخيار الأخير.

أساليب تنويرية

ويشير الفنان صباح السبهان إلى أن الحديث متعلّق باستعادة مفهوم التنوير، ومدى الحاجة لتفعيله اليوم بوصفه حركة إصلاح، برزت في المجتمعات الغربية إبان القرن الثامن عشر. ولكونه بمثابة ثورة فكرية، سعت لتنمية القدرات المجتمعية، وحثّت على رفض الوصاية الكهنوتية والسياسية، التي كبّلت المجتمع الغربي بأصفاد الظلم، ورسّخت للاستبداد الكهنوتي (الديني) الذي تمخّض عنه عديد المعضلات، كالعسف المجتمعي والتفاوت الطبقي، وسواها من آفات نخرت البنية المجتمعية، ممَّا دفع عديد المفكرين الغربيين، لإيجاد ملاذات خلاص، عبر حركة تنوير فاعلة أخذت على عاتقها فصل السلطة الكنيسية عن إدارة الدولة، وتبع ذلك سيرورة حركات إصلاحية تنويرية في المنطقة العربية، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إذ كان الشيخ محمد عبده في مصر، من أبرز الدعاة إلى التنوير الإصلاحي، في محاولته الجادة لإعادة فهم الموروث عبر ترميم المنهج الأزهري، ممَّا عرّض منهجه لعاصفة من الصد والرفض، من قبل المتزمّتين المتمسكين، بالكثير ممَّا هو بالٍ، لا يحاكي العقل ومنطق التطور والتجديد.

أمَّا في العراق وفي اللحظة الراهنة، فمسؤولية كسر الرتابة وإحداث التغيير، تقع على عاتق الطيف النخبوي من أرباب العلم والفكر والمعارف والمشتغلين بحقول الثقافة، لتشخيص المعضلات المجتمعية، والأفكار المعطوبة والرثّة، ومن أبرز الكوابح التي عمّقت النكوص المجتمعي والثقافي في الساحة العراقية، يمكننا تلخيصها في معضلتين، الأولى.. طقوسية هجينة، ألصقت بالتديّن وهي ليست من منهجه ولا من رسالته، وعبر الحقب الزمنية ولجت فضاء المقدّس، وترسّبت في أعماق المسكوت عنه، وبات من العسير التصدّي لها، حتَّى من قبل أفذاذ العلماء والمفكّرين، خشية مواجهة المسطّحين فكرياً والمعتوهين جمالياً. 

وكانت المعضلة الثانية تتعلّق بإشاعة النعرات القبلية، وإرهاصات النَّفَس العشائري والفئوي المقيت، الذي شاع في بنية المجتمع العراقي، ممَّا أوهن سلطة القانون والتشريع الدستوري الضامن لحرية الفرد والمجتمع، وتتطلّب معالجة هذا التداعي، إيجاد حراك ثقافي عقلاني وطني، مهمّته الأساسية ابتكار اساليب تنويرية، تسفّه الطقوس الفارغة والتقوقع القبلي والفئوي والحزبوي والطائفي، بغية النهوض بالمجتمع إلى آفاق النظام الشرعي الحقيقي، الضامن لسيادة القيم الأخلاقية والمعرفة، وهو ما يقع على عاتق طبقة (الانتلجنسيا) العراقية، أي منتجي الفكر والثقافة والإبداع.

استجابة معطّلة

ويختتم الكاتب ساطع راجي حديثنا بقوله إنَّ التنوير، بوصفه عقلنة المجتمع والفكر، ليس موجة أو توجّهاً ولا نظرية، هو استحقاق تاريخي اجتماعي ينتهي بالاستجابة له وتحقيق شروطه وقد يصل إلى المجتمع إلى مرحلة نقد ومراجعة التنوير بعد عبوره، ولذلك لا يمكن الجزم بانتهاء التنوير والنهضة العربية، لكنَّ ما حدث هو أنَّ قوى سلطوية، عُدّت قسراً، إنَّها تمثّل الاستجابة التنويرية لمجرّد تبنّيها منظومة فكرية هي أحد منتجات التنوير مثل الاشتراكية أو القومية أو الليبرالية... ولذلك فإنَّ التنوير تمَّ تعطيله قمعياً، في حين استمرّت قوى السلفية الفكرية والاجتماعية العربية بالنمو والتوسّع وبمجرد رفع غطاء القمع السياسي تهيمن هذه القوى مجدّداً.

ويضيف: تدرك مؤسّسات السلطة الاجتماعية والسياسية العربية، اليوم، أنَّ التنوير تعطّل قسراً على الرغم من ضرورته، ولذلك ترعى تشكيل تجمّعات تنويرية في محاولة لإدارة هذا الاستحقاق بما يحمي مصالحها أو في الأقل لا يهدّد وجودها لأنَّها ترى فيه حتمية لا ينفع معها التهرّب والقمع أو العرقلة لأنَّ هذا التعامل يؤدّي إلى اضطرابات وتناقضات وانفجارات للعنف الاجتماعي وممانعة تجاه الاندماج التقني والاقتصادي العالمي.

التنوير كعملية اجتماعية سياسية هو نتاج لاصطدام نقيضين، هيمنة الموروثات والخرافة على المجتمع من جهة ونضج مؤسّسات الإنتاج العلمي والفكري من جهة أخرى، ولا تنجح عملية التنوير إلَّا بتوفّر قوى اجتماعية داعمة ومنتجة فكرياً وسياسياً، وشروط النضج المؤسّساتي والدعم الاجتماعي لا تتوفّران في العراق وهو ما يعني أنَّ الاستجابة التنويرية ستبقى معطّلة.