هديل شجرة التوت

ثقافة 2024/05/22
...

ناظم علاوي



  سمعت أمي تناديني. كنت بغرفتي انظر من الشباك إلى ليلى وهي تدق باب بيتها بكوعها. كتبها الملتصقة بصدرها توشك أن تسقط منها. جوربها الابيض اليمين يكشف عن كاحل حنطي. صوت أمي صار اقوى. تأخرت أمها. اسندت ليلى نفسها بميلان نحو الباب. التفتت وكأنها شعرت بي وأنا أمدُّ أنفي من بين القضبان بلا أدنى حذر. مرات عدة أفشل في التواري. ألاحقها في مشاويرها البيتية وأفشل في الا أكون مرئيا. انكماشات ملامحها وعلامات الغضب أدلة موجعة. لم أكن أقدر على تحريك نفسي حين تلتفت ويمسكني بصرها وأنا مثل دجاجة تائهة.

***

كانت أصغر مني بخمس سنين. احتضنت المحلة طفولتنا وحجارة بيوتاتها كانت شاهدة على نضوجنا وذكرياتنا البريئة. اعتادت أمها أن تكلفني بمرافقتها للسوق أو في أي مشوار خارج المحلة. لهذا ادخل بيتها واخرج دون شبهة أو احراج. 

كبرنا معا وأصبحت الأبواب تقصر امام قامتي التي اخذت بالطول، تغير فيّ كل شيء. صوتي أصبح أكثر غلظة، وغزا الشعر أعلى فمي وبانت اسفله لحية سوداء، وأصبح لجسد ليلى المسطح تكورات وبروزات تلهب فيّ رعشة حين ألمسها من دون قصد. أصبحت تغيب عني لأيام ولا افهم لماذا؟ حتى جاءت تحدثني بحياء عما يسمى (بالدورة) وعن دماء. لهذا تُتعِبها فلا تستطيع الخروج للعب معي. مع هذا التغيير راح يكبر فيَّ شعور غريب تجاهها، قبل سنوات ما أن ننتهي من اللعب واتركها؛ أنساها، لكنها الان تصبح أكثر التصاقا بي حين نفترق عائدين لبيتنا فتصبح سلوتي في خلوتي وخيالاتها ترافق لزوجة تأوهاتي. لم تعد لقاءاتنا كالسابق أصبحت أتأنق في ملبسي وانتقي مفرداتي في محاولة أن أتجمل أكثر. تضحك كثيرا وتستغرب هذه التغيرات فيّ وكان يزعجني عدم تفهمها لسيل مشاعري تجاهها.

تثيرني أحاديث نسوة الزقاق وهن يجلسن عصر كل يوم امام باب دارنا، تتوسطهن حفافة المحلة التي تسرد المستور والمخبأ عن كل البيوتات وكثيرا ما استرق السمع عندما يصبح الحديث عن ليلى واخواتها فَتزمّ الحفافة شفتها وهي تنكث المحظور في حديثها: لقد كبرن وأصبحن رماحا ممشوقة لا يجب ان يتركن هكذا من دون زواج. تنهرني امي بعد أن ترى عيناي مشدودتان لحديثهن، فتطلبُ مني الابتعاد.   

منذ أن بدأت أدرك ما حولي كان أي شيء يدهشني ويشدني. أراني منجذبا وشغوفا لمعرفة المزيد، وكثيرا ما حاولت فهم أحاديثهن وما الذي فعلته النمرة الجموح منيرة بعصام بن سهلة الغلام الصغير الذي لم يبلغ الثامنة من عمره بعد. حين راحت الحفافة تسرد لأمي قائلة: ذات ظهيرة كنت على سطح ام مريم الخبازة المجاور لبيتها رايتها تمسك بيد الصبي عصام لتأخذه تحت الدرج وتلصق ظهره إلى الجدار فتتقرفص على ركبتيها أمامه وتفظ عنه سرواله: 

- أنت تعرفين الباقي.

 - اخفضي صوتك لئلا يسمعنا الولد. 

كنت مستلقيا على ظهري متظاهرا بالنوم وأحاول فك الأحجية لماذا تقرفصت على ركبتيها؟ وما الذي لا تريد أمي أن أسمعه؟ هذه الافكار تأكل عقلي الضاج بالرؤى مع تلك الأسرار الخُلَّبْ التي تثور من فمها عن رجالات المحلة وبعض صباياها. أحاديثها تؤجج فيَّ نزق خيالاتي الشبقية والتي جعلتني أكبر من عمري لادرك ان هذا الصبي أصبح ينمو داخله شبق احاسيسَ تجاه ليلى التي تلهب في عقله خيالات تجعل أجزاء من جسده تستعر حرارة، الامر الذي دفعني مرة عندما رايتها عائدة من المدرسة وطلبت مني مساعدتها في فتح باب دارهم، اقتربتُ منها وبعد ان صرنا خلف الباب وجها لوجه، وشعرتُ أنفاسَها بركان يقشّر عني رجولة مكبوتة ضجَّ بها صدري، ارتجفتْ شفتيَّ واهتزتْ عيوننا المشدودة ليهدل الحمام المستقر على غصن شجرة التوت بصوت جميل عذب زادَ من دفقَ احساسي حين لمستُ بيدي صدرها النافر وانا أحاول اخذ الكتب الملتصقة بقوة فيهما، صرتُ مثل قشة لا تستقر وسط ريح عاصفة، ابتسامتها سيف جرح روحي. اقتربتُ دون إرادة مني لأخطف قبلة! كانت عنوانَ بوح ٍاججته تلك الانثيالات التي امتزجت مع روحي. تيقنتُ حينها بأني لا أملك أكثر مما كان يملكه عصام تحت لباسه الأمر الذي جعلها تغضب وتطلب مني ان اذهب ولا اعود إلى ذلك أبدا. 

في الليل عصفت في رأسي تساؤلات قلقة ممزوجة بمتعةٍ لازلتُ استشعرُ حلاوتها على شفتيَّ: يا ترى هل ستُخبر أهلي أو أهلها؟ 

كبرتُ وخطّ وجهي شاربي المائل للصفرة، وأكلت عينايّ الزرقاوان كثرة السهر والمطالعة في الكتب، هكذا تعلل أمي أسباب ضعف جسدي وصمتي المستمر وشرودي، لاعنة حمورابي وعبد العالي مدرس اللغة العربية في إعدادية المحلة، الذي كان يشجعني على القراءة والمطالعة وهو الذي حببني بها حين أهداني اول رواية كي أقرأها. الكتب شغلت ليلي قبل نهاري فكانت مثار احتجاج والدي الذي يرى انني بتُّ أخسر لأجلها عائلتي واحدا فواحدا، أبي لا يريد مزيدا من الخسارات بين أبنائه، ما دفعه للذهاب إلى المدرس وأمره أن يبتعد عني وأن ينتهي من تشتيت عقلي بكتبه الفاسدة، صارخا بوجهه: لا اريده ان يلحق بخاله الذي استقر في مشفى المجانين.

بعد اسبوع من تلك القطيعة، كان الوقت منتصف نهار تموزي نادتني ليلى من خلف الباب وانا عائد من تجوالي في المدينة: تعال. على استحياء أجبتُ نداءها، طلبتْ مني أن أساعدها في حمل صندوق مملوء بالحاجيات الى غرفتها في الطابق الثاني، كنت ادخل واخرج من بيتها دون استئذان لأنني ما زلت صغيرا بعد واني تربيت مع بناتها، هكذا تبرر أمها اختلاطي معهن، دخلت الغرفة. وضعت الصندوق فوق الدولاب في نهاية الغرفة استدرت لأراها واقفة خلفي. اقتربتْ. التصقتْ بي أحسستُ أنفاسها حارة تزيد من لهيب وجنتيّ وصدرها النافر جمرة تكويني، أول مرة أشاهدُ ارتجاف الشفاه الشبقة، مدَّدتْ يدها أسفل بطني وهي تهمس بغنج: 

- لقد كبرت يا حقير. 

  دفعتها. سقطت على السرير، ألقيتُ بجسدي المتعطشّ فوقها. كانت العصافير تزقزق بقوة على شجرة التوت المعمرة والموزعة أغصانها بين دارينا المتقابلين، بينما الحمام يبتلع الهديل. إلى أن جاء اليوم الذي قالت سأزف قريبا. بعد أسبوع ضجّ الزقاق بمزامير العرس وراح يهدل الحمام مباركا العروسين والمحتفلين الضيوف القادمين من البعيد.

***

تبخرت متاريس الحياة وبهجتها، اعتدت الانعزال. لم يعد لدي اصدقاء، غير الكتب التي أجد ليلى مرسومة على سطور صفحاتها واسئلة اخرى تمور في مخيلتي كبراكين تجرس أيامي عن معنى الحياة في هذا الكون. نادرا ما كنت اخرج من غرفتي بعد عودتي من المدرسة. المدرس عبد العالي يتوسم فيَّ عالما في المستقبل يشجعني على القراءة بخلاف والديّ واخوتي. بينما عقلي المتأرجح بين صمت امام الناس وصخب يثور من افكار استلها من كتب أطرحها قطع ملقاة في الشارع مهملة لا تجد من يقتنيها.   

 كان كل من يعرفني يواسي ابي ويحثه ان يسعى لعلاجي والخوف من ان الحق بخالي الذي اصابته لوثة الجنون ولم يكن والدي يدري أنني ابكي رزانتي التي فقدتها حين تركوني نهبا لليلى وساعاتها الطوال في غرفتها المعزولة في الطابق الثاني.  

تسحرني الأشجار الباسقة في حديقة الشهداء والتي تذكرني بشجرة التوت في بيتنا قبل ان تمتد يد خبيثة بأمر من ابي ليقطعها. تلك الحديقة التي تتوسط المدينة وتعطر جهة الشمال من محلتنا بروائح الازهار والورود تشدني اغصان اليوكالبتوس الممتدة مع سياجها الموازي للمتحف الحضاري من جهة الغرب والمواجه لجسر الحرية. كنت بشكل يومي، وكأنه أحد طقوس حياتي. احضر عند غروب الشمس للحديقة واتحدث مع الحمام والعصافير. اشعر بها عند ارتفاع زقزقتها وهديلها أنها ترد علي وهي تبحث بين أغصان أشجار اليوكالبتوس والدفلة عن مبيت تقضي فيها ساعات الليل، تعصف هذه الأصوات في رأسي طواحين بطولات حفظتها عن ظهر قلب من حكايات ما قبل النوم وانا استمع لبواكير المعرفة من فم أبي. 

     الصمت يأكل خطواتي فوق اسفلت الكورنيش المجاور للجسر الحديدي تلك البقعة التي أحببتها، وراحت تلهب سنوات عمري، أجلس لساعات وربما أبقى حتى الفجر ليوقظني من غفوتي السرمدية صياح النوارس القابعة عند أسفل الجسر. أعتدل أذهب حيث سوق باب السراي اطالع الوجوه علّني أعثر عن شفتين ألهبتا طفولتي وجعلتني أكبر قبل أواني، أو اجدُ عينان سكنتا مخيلتي. يزداد زحام السوق بالناس، تخنقني أصوات الباعة وتزكم أنفهي رائحة السمك الملقى على أرض تنتظر المشترين. تقرقر معدتي الخاوية، ابحث عن نقود في جيبي، يدعوني صاحب المطعم صديق والدي، الذي ألف صمتي وضياعي لتناول الطعام. 

أعدو مسرعا إلى المحلة يطالعني وجه مدرسي مبتسما قبل أن يتكلم ألوِّح له بيدي. أدخل البيت امسح قدميّ بصنبور الماء خلف باب الدار الحديدي والسعادة تطفر من عينييّ فقد أدركتُ لوهلة المعنى الحقيقي للوجود والحدّ الفاصل بين السعادة والحزن؟ وكيفية الابتعاد عن الالم. أعبر قنطرة البيت تقابلني أمي بابتسامة ودودة، فيما اخوتي يستبشرون وهم فرحين لأني اول مرة اغسل بنفسي قدماي حين ولوجي الدار. اتوجه إلى الأعلى حيث غرقتي، أنهب الدرجات وأمي تراقبني ودعواتها تلاحقني أن يحرسني الله ودموعها تنسكب على خديها، وصوتها يغسل اذنيّ تعال لتتناول فطورك معنا. ألج الغرفة مثل هبة هواء ربيعية وأوصد الباب خلفي.  

بينما الزقاق يرقص وتعلوا الهلاهل والاغاني وهم يزفون ليلى لحبيبها وبيتها الجديد، أجد السماء اكبر اتساعا ووضوحا بعد ان قطعوا شجرة التوت وازالوها من باحة بيتنا.