الوساوس المتسلطة.. تكفيرٌ عن الشعور بالذنب

منصة 2024/05/23
...

نعرف أن هناك وساوس متسلطة، وكنا كتبنا عنها بعنوانٍ آخر هو (الوسواس القهري)، لكن أن تفسر الوساوس المتسلطة بأنها (تكفيرٌ عن الشعور بالذنب) فذاك هو الجديد الذي سيمتعنا بالحديث عنه شيخ علماء النفس فرويد، الذي يصفه بأنه «سلوك أو تصرف يدعو الى الضحك والسخريَّة ويثير التعجب والإشفاق على صاحبه».

ويرى أنَّ هذا السلوك الشاذ يتخذ صوراً تتصفُ جميعها بالتكرار الغريب أو اللامعقول، ذلك أنَّ هذا النوع من الأشخاص تتملكه أفكارٌ من نوعٍ خاصٍ تسيطر على تفكيره وتدفعه قسراً الى القيام بأعمالٍ وحركاتٍ وتصرفاتٍ وأمورٍ لا يقبلها العقل ولا يقرّها المنطق السليم.
وإذا سألت فرويد عن سبب هذا المرض النفسي، فإنَّه سيجيبك بأنه ناتجٌ عن كبتٍ شديدٍ لدوافع ونزعاتٍ جرى حرمانها من الإشباع، ولكنْ هذا الكبت لا يقضي على هذه النزعات فتبقى عاملة، شغالة في اللا شعور، ويحصلُ أنْ يقومَ صراعٌ عنيفٌ بينها وبين الضمير الأخلاقي اللاشعوري. ولأنَّ هذا الضمير لا يستطيع أنْ يتغلب بشكلٍ مطلقٍ على هذه الرغبات أو الدوافع المكبوته فإنَّها تنطلقُ على شكل مظاهر شاذة. ولمّا كانت هذه الرغبات المنافية للأخلاق تلحُّ على الشخص لقوتها، فإنَّه يستشعرُ في نفسه الإثم أو الفعل القبيح ولو لم يرتكبه، يؤدي الى أنْ يسعى - لا شعورياً - الى التكفير عن الإثم الموهوم. ويخلص فرويد الى القول بأنَّ تصرفات المريض المتكررة ما هي إلا محاولات للتكفير عن شعوره بالذنب!.
والجميل في فرويد أنه يأتي بأربع حالات أو مظاهر لهذا المرض، أهمها الخوف من النجاسة، فنجد المريض لا يكاد يلمس أحداً - أياً كان - حتى يسارع الى غسل يديه إنْ لم يغسل جسده كله!، ويقضي ساعاتٍ في محاولات التطهر بالماء والصابون.
والحالة الثانية، أنَّ بعض المرضى مصابون بعدم النوم قبل التأكد من إغلاق الأبواب والنوافذ وقفل مفاتيح النور وحنفيات المياه. ليس هذا فقط بل أنهم يقومون من الفراش للتأكد من هذه الأشياء ثانية ورابعة وعاشرة. وهناك مظهرٌ ثالثٌ يتمثلُ في أنَّ بعض الأفراد يلتزمون بنظامٍ خاصٍ في ارتداء ملابسهم أو خلعها، إذ يبدؤون بلبس الجوارب أولاً يليها لبس الحذاء، فالقميص فالبنطلون فالجاكيت... الخ. وإذا تصادف أنْ أخطأ نتيجة للسرعة فارتدى البنطلون قبل الحذاء مثلاً، فإنَّه يعودُ ثانية من حيث ابتدأ.
والحالة الرابعة تتعلقُ بترتيب الملابس والأشياء وقُطع الأثاث بشكلٍ معينٍ وثابت، وإذا حدث أي إخلالٍ في هذا الترتيب، فإنَّ الشخص يصابُ بقلقٍ شديدٍ وارتباكٍ لا حدَّ له. وكثيراً ما نلاحظ ذلك لدى بعض ربات البيوت، فاذا حدث أنْ حرّك الزائر كوباً أو شيئاً من مكانه فإنهنَّ يسارعن لإعادته الى مكانه، ولا تبقى الواحدة من هنّ ساكنة في مكانها، بل تنهض لوضع منفضة السجائر في مكانها أو تعيد ترتيب المقاعد.
ويخلص فرويد الى أنَّ مهمة العلاج النفسي هنا هو اطلاع المريض على حقيقة هذا الصراع، ومعاونته على الخلاص منه بطريقة سويَّة مع تغير بيئته التي قد تزيد من حدته النفسيَّة.
لقد أجاد فرويد في وصف أربع حالاتٍ من الوساوس المتسلطة، وأدهشنا في تفسيره لها بأنها تهدف الى التكفير عن الشعور بالذنب، غير أنَّ (علاجها) بوصفه هو، قد لا ينجح مع كثيرين، لا سيما العراقيين والعراقيات.