پولي نورث
ترجمة: مظفر لامي
ينتمي كتاب المذكرات اليومية لمختلف شرائح المجتمع، مما يعني تنوعا واختلافا في النشاط واللغة والثقافة والشكل والجنس والانتماء السياسي والزمن. وهذه المدونات تبدو متماثلة تماما في صعوبة الوصول إليها وقابليتها للقراءة؛ فالكثير منها لا ينشر، أو يتم إتلافه أو وضعه في المكان غير المناسب، والبعض الآخر يخفى أو يكون متضررا جدا، أو يشفر، وقد يكون غير صالح للقراءة.
وفي كل حال، لا أحد يختلف في أن المذكرات اليومية تحمل السمات الشخصية لمؤلفيها، ووجود تقارب بينها أحيانا، لا يعني وجود مذكرات شخصية متشابهة تمامًا. فكل واحدة منها تسعى لنقض قاعدة راسخة. وإن كان ثمة مبدأ واحد يجمعها فهو الاختلاف التام في ما بينها. وما يرد هنا من خواص للمذكرات اليومية، إنما تقدم كأدلَّة يسترشد بها وليست كقواعد ثابتة.
من الواضح أن هذا النمط من الكتابة يتفاوت في كونه منتظما، متواترا، عفويا، ارتجاليا، مجتزئا، مؤرّخا، صريحا، خاصا، شخصيا وينطوي على مكاشفة ذاتية. وفي كثير من الأحيان، تكتب المذكرات كتمرين، أي كإجراء بحد ذاته. وغالبا ما تنجز نصوص كهذه بعد إعادة تقيم للبعض من هذه الخصائص، وأي محاولة من هذا النوع، تكون سبيلا للارتقاء بجودة الكتابة. فالتكتم في مفكرة المواعيد، التي تكون غايتها مقتصرة على التخطيط للمستقبل، تقابله فصاحة في الاستبطان المتأني، الذي نرصده في المذكرات الآنية أو تلك التي تستعاد فيها تجارب الماضي. تجدر بنا الإشارة هنا لميزتين في نصوص اليوميات، ينظر إليهما في الغالب على أنهما جوهر هذا النمط من الكتابة، وهما الطابع الشخصي لما يدون فيها، والتاريخ أو التسلسل اللذان يلحقان بنصوصها. غير أننا نلمس أن هذه الخصائص لا تتعدى كونها السمة البارزة لجميع كتاب اليوميات.
لنلقي أولاً نظرة سريعة على أهمية الوقت عند العديد من كتاب اليوميات، وفي أغلب الأنماط الشائعة لهذه الكتابات. فمنذ آلاف السنين، تم العثور على شروح مؤرخة في الحوليات والمدونات التاريخية والتقاويم وغيرها من السجلات الرسمية. وهذه الوثائق كانت ولا تزال تكتسب أهمية كبيرة لأسباب عديدة، يبرز من بينها مساهمتها في وضع تقييم يستند للتعاقب أو للسجل الزمني للأحداث. وقد واصلت النصوص الرسمية التي تعنى بالوقت تحقيق وظيفتها الأصلية كسجلات لنشاط الدولة، أو أي نشاط آخر للقادة أو مسؤوليهم. لكنها أصبحت تدريجيا عرضة لتدوين الملاحظات الشخصية المؤرخة. وفي اليوميات، يكتسب سهم الزمن دلالة خاصة. على سبيل المثال، غالبًا ما يُحدد التاريخ على صفحات اليوميات الحديثة التي نشتريها من المتجر، لكن النصوص التي تكتب فيها تكون مليئة بالتعاطي الذاتي مع الزمن؛ فالعواطف وتقلبات الذاكرة تؤثران في الطرق الموضوعية، التي نتعامل ونحسب بها الزمن المستهدف. نشير هنا أيضًا للسمة الثانية التي تشكل الجوهر الأهم في المذكرات وهي الطابع الشخصي الذي يكون حاضرًا بشكل حيوي وأساسي. فمعظم هذه الكتابات، حتى التي تتناول منها الحياة اليومية البسيطة، إنما تكشف عن التفاصيل الشخصية المتعلقة بكتابها. على سبيل المثال، تكشف مفكرة المواعيد الأكثر روتينية ما أراد أصحابها تذكره. ونحن حين نتمعن في جوهر ما هو شخصي، فذلك يعني على الأرجح أننا نلامس أفكارًا بالغة الأهمية، لكنها في ذات الوقت غامضة إلى حد كبير، وهذا الوصف يشمل محاولاتنا لإدراك ومراجعة ووصف طبيعة ومحتوى تجربتنا الإنسانية.
تعد كتابة المذكرات نقطة انطلاق ممتازة للتفكير في معنى التعبير عن الذات، وتجربة أن يكون المرء مدركًا لحياته العامة وبواطن حياته الشخصية. كما توضع الهوية، البعد الذاتي، المسؤولية والفاعلية تحت المجهر. إن محاولة استكشاف المذكرات تعني أيضًا التساؤل عن الطرق التي نتعامل بها مع بنياتنا المعرفية والوجودية. وعلى الرغم من أن هذه المقالة لا تتعلق بمحتوى نقدي للمذكرات بقدر تعلقها بطبيعة كتابة المذكرات، إلا أن توضيحًا مختصرًا عن أهمية السمة الشخصية في كتابة المذكرات، ستسلط الضوء على مدى أهمية هذه الخاصية للنقاد وكتاب المذكرات على حد سواء. من المعلوم أن النظر للسيرة الذاتية والمذكرات كنصوص تستحق الدراسة كان مقتصرا قبل عام 1970 على عدد قليل من الأكاديميين الأوروبيين، مثل جورج ميش في مؤلفه "تاريخ السيرة الذاتية في العصور القديمة" وآرثر بونسونبي في "المذكرات الانجليزية". وقد وجد هؤلاء أن النصوص التي تشبه المذكرات، منذ عام 450 ق. م، كانت بمثابة مقياس جيد لتاريخ وتطور العقل، أو فكرة "الذات". وأن الدراسات النقدية للمذكرات من أوائل القرن التاسع عشر فصاعدًا، قد رسمت مسارًا للمواقف الأكاديمية المتغيرة تجاه السمة الشخصية. بعد عام 1970 بدأ الاعتراف الأكاديمي باليوميات يأخذ منحًا تصاعديًا. ومما لا شك فيه أن النقد والمصطلحات والمناهج تتطور باستمرار، لكن الرغبة في انتقاء طبيعة ومحتوى التجربة الإنسانية يظلان ثابتين. وإذا قضى المرء وقتًا معينًا في قراءة نقد اليوميات، فسيجد نفسه لا محالة في خضم الحرب الثقافية التي تدور عادةً بين الموروث الإنساني البراغماتي والأفكار الأكثر قربًا من إشكالات وتحديات ما بعد الحداثة والبنيوية. وعلى الأغلب، جوهر الأمر يكمن في تساؤلنا إن كنا نملك صوتنا حقًا أم أننا شفرات ووسطاء للمجتمع لماهيتنا المادية. فاليوميات تقودنا، على هذا النحو، إلى فحص أسس الأطر الإنسانية الحيوية، الذي يشكل البعض منها حياتنا الشخصية والأخلاقية والجسدية. وهي تفعل ذلك بحرص وإدراك لتنوع وغموض تفسيرات الحياة وتجاربها.