سلام مكي
{الأدميرال لا يحب الشاي} رواية تنتمي الى مدرسة نزار عبد الستار المتفردة، والتي أسست نسقا كتابيا متجددا، ومختلفا عما هو سائد. الرواية الصادرة حديثا عن دار الساقي في بيروت، ترسخ فكرة سائدة لدى القرّاء والمتصدين لنقد منجز نزار عبد الستار، وهي التفرّد في اختيار مناطق كتابية غير مأهولة، والسير وحيدا في هواجس خاصة، يسعى نزار وحده لاكتشافها، في وقت تحج الأقلام فيه الى لحظات تاريخية محددة شكلت منعطفا في مسيرة التاريخ والبلد.
استثمار التاريخ في الكتابة ليس أمرا جديدا بالنسبة للرواية، فثمة روايات سلّطت الضوء على لحظات تاريخية معينة، كانت منطلقا لمراحل أخرى.. لكن " الأدميرال لا يحب الشاي" رواية تاريخية، اجتماعية، تتحدث عن فترة نادرة من تاريخ العراق، فترة لم تكن ذات اهتمام من قبل التاريخ نفسه، فهي مجرد سنين منسية، ولحظات سبات ونوم في كنف التخلف والجهل والاحتلال.. مرحلة ما قبل تأسيس الدولة العراقية، وفي مكان محدد وهي البصرة، حيث كان الاحتلال العثماني جاثما على صدر العراق والبصرة، فلا سلطة محلية ولا حركة ثقافية ولا شيء يذكر، يمكن جعله أيقونة كتابية يستند عليها الكاتب في توثيق تلك الفترة التي شهدت حياة أخطر وأبشع مؤسسة استعمارية، امتصت دماء الشرق، باسم التجارة والتبادل الثقافي والتجاري، لدرجة تحكمها بكل مفاصل الحياة العامة. وهي شركة الهند الشرقية التي كان بطل الرواية" عزيز وفي آل السفّان" بأصله العربي أو " زيز لا نكستر" بهويته المصطنعة أو " عزيز لا نكستر آل السفّان" باسمه المنافق، يمثل بكل ما قام به من جرائم قتل وتقطيع أطراف وتدمير للبشر بواسطة الأفيون، الوجه الحقيقي لشركة الهند الشرقية، فقال ذات مرة: أنا شركة الهند الشرقية..
في هذه الرواية، يوجّه نزار عبد الستار، مجموعة رسائل متداخلة، إضافة الى أنه قرر ألا يكون الكاتب الوحيد لها، بل القارئ سيكون مساهما هو الآخر، وكل قارئ سيكتب وفق رؤيته الخاصة، وما يتوصل إليه من فكرة للكتابة. فحين يحرّك أمواج التفكير والقلق في ذهن القارئ، يتركه ليتجه الى ساحل آخر، حيث يبدأ فكرة جديدة وقلقا جديدا، يكون أكثر فداحة من الأول، لا يترك نهاية ترتطم بالجدار الأخير، بل غالبا ما نجده يهدم كل الجدران التي من شأنها إشباع نهم القارئ والإجابة عن الاسئلة التي تثيرها الفصول، حتى النهاية، رغم أنها أشارت الى الحدث الذي ينتظره الجميع، وهي موت البطل، لكنه آثر أن يترك فسحة للقارئ، كي يتصرف بها على وفق ما يرى: تقدم شينغ ويده ترتجف حتى لامست فوهة المسدس جبين عزيز الذي حافظ على ثباته خشية أن تتأذى بدلته الأدميرالية، وقال وهو ينظر في عيني شينغ:
ــــ يبدو أن السيدة بريطانيا لم تسامحني..
القارئ هنا، على وشك الادراك بأن الصيني على وشك قتل البطل، حين يضغط على الزناد وينتهي الموضوع، لكن العبارة التي ختمت بها الرواية، يمكن أن تشير إلى حدث آخر قد يحدث. وكل قارئ يمكن تدوين الحدث الذي يراه مناسبا، أما نهاية كل شيء بموت البطل، أو بقائه على قيد الحياة، فيما لو كان للصيني رأي آخر!
نعود إلى بطل الرواية، الذي كان يقتل الهنود ويقطع أطرافهم ويبيع الأفيون للصينيين، ويقوم بكل ما هو شائن وإجرامي في سبيل تلافي النقص الحاصل فيه، فهو من أصل عربي، والده وفي آل السفّان، رجل مسلم عربي من البصرة، وأمه هندوسية من مدينة جانسي الهندية أسمها آكشي، ومن قام بتربيته وإعطائه اسمه تشارلز لانكستر وهو مدير حسابات شركة الهند الشرقية. فكان هذا البطل يعاني من عقدة الانتماء، فلا هو يستطيع التخلص من جذوره العربية، ولا التمسك بهويته التي منحت له، فحين سأله عمّه كرم آل السفان عما إذا كان ابن وفي، أجاب بأنه رجل إنكليزي واسمه لانكستر، وحتى عندما قرر زيارة عمه والاعتراف بنسبه، كان لأجل غاية وهي إيجاد موطئ قدم في البصرة، كي يحقق مآربه في بيع الشاي.. إن تاريخ شركة الهند الشرقية الحافل بالدم والموت والنهب الممنهج، كان ممثلا بشخصية زيز لانكستر الذي لم يتورع عن فعل شيء في سبيل إعلاء شأن الشركة وتحقيق أهداف المقيمية التي هي أهداف بريطانيا العظمى! ونزار عبد الستار، حين جعل البطل في دوامة الانتماء لهذا وذاك، إنما أراد إيصال رسالة مفادها أن التاريخ الأسود لا ينتمي إلى مكان محدد، والقتل والنهب الذي كان يمارس في تلك الفترة من التاريخ، لم يكن ينتمي إلى مكان محدد بذاته، فالأيدي التي تطلق الرصاص بلا هوية أو تاريخ. فعزيز لم ينشأ في البصرة، ولا في الهند، ولم يكن انكليزيا، بل كان خليطا غير متجانس، وهذا هو الشر الذي كان يسود العالم ولا زال، عزيز بطل الرواية، هو صورة واقعية عن حقيقة ذلك الشر، جذوره شرقية، وتربيته غربية! وحتى في لحظات تحوله الى إنسان سوي، كان بدافع الانتهازية والوصولية، فكان يريد تحقيق غايته الأساس، عندما أخذ يتواصل مع أقربائه في البصرة آل السفّان وهي بيع الشاي! فكان لا يتورع من ذكر ماض زوجته ولا حاضرها، رغم أن عادات العرب كانت قاسية الى حد بعيد في التعامل مع هكذاحالات..
لقد تعامل نزار عبد الستار مع الحدث الروائي، بكل عفوية وصدق، بعيدا عن التكلف والاسترسال غير المنطقي، حتى في الحوارات والأحداث التي تضمنت الجنس، لم يذكرها بإيحاءات، بل كانت مباشرة، وفي انتقائه لأسماء البطل، فتارة يذكره بـ عزيز وتارة زيز، وهو نفس الاسم، مع الفارق أن عزيز اسقط حرف العين عن اسمه وذلك للتماهي مع الحالة التي يعيشها. فحين يكون البطل زيزا، فهو في سياق الحديث عن سعيه لاثبات انكليزيته المزيفة، وحين يكون "عزيزا" إنما يكون ضمن سياق البراغماتية التي كان البطل يمارسها سعيا للوصول الى غاياته. وحين يكون السيد عزيز لا نكستر آل السفّان، إنما ليكسب عشيرته التي أبدت عدم معارضتها من مساعدته في بيع الشاي. إن رواية "الأدميرال لا يحب الشاي" تتحدث عن لحظة تاريخية غائبة عن الذاكرة الثقافية، نبّه اليها الروائي، وسعى لأن يطرق أبواب عدة منها لحظة اكتشاف الشاي وانتشاره في البصرة ومنه الى البلد كله، ولحظة سيطرة الوجه الاستعماري البشع لبريطانيا وهي شركة الهند الشرقية، وكيف كانت تمارس أسوء وأبشع دور في المنطقة والعالم فقط لأجل تجارتها وبسط سيطرتها على الشعوب. ومنها أن ذلك الدور رغم الدور الرئيس لبريطانيا فيه، إلا أن المحركات الخفية له، كانت تدار من قبل أياد غير بريطانية، ولدت من نفس الشعوب التي كانت تعاني من ذلك الظلم.