ياسين طه حافظ
ليس إدعاء تفوق ولا رغبة في إسقاط أو تخطئة، ولكني أشعر بأنها حاجة ولاستكمال درس. أعني أن نتردد، نتوقف قليلا، عن ترداد الاحكام وما قرره قبلنا الدارسون، لا تجاوزا لهم ولكن احتراما للحد الذي توقفوا عنده ومدى سلامة ما تم انجازه.
وإذا ما رأينا انشغالهم بجوانب ثانوية على حساب جوانب أكثر أهمية اساسية لمنطلقات فهم وتحليل جديدة، فلنجمع شجاعتنا ونشير للخطا، للخطأ أو الضعف، ونتجاوزه لما نراه أولى بالدرس أولا او أحق بالاهتمام والنظر الطويل.
فلا نقلل مثلا من متونهم وهوامشهم عن الأسلوب ولكننا نُلمّ بهذه ونهتم بجِدته في زمنه، أو زمننا، ولما قد تأسس من بعد عليه. سوف لن نختلف في الأسس ولكن في اضاءات الفن. فما انا قنعتُ به، هو أن الاسلوبية الحديثة غير بعيدة عن البلاغة الكلاسية. لكن لا نريد أن نكون اسرى الموازنات وقد اختلفت المعايير! ولا نريد الانفعالات والاستجابات العاطفية وما يستفز رواكد من أحاسيس قديمة أو جديدة وننسى تألقات السطح عما نفذت اليه الدلالة.
أساس الدرس اكتشاف خصوصية المنجز وخصوصيته الثقافية. وثقافية هنا بمعنى معمار التركيب اللغوي وما حمل لنا من ثراء وأشار لأفكار وجمالٍ ومعان وعالم.
ومثلما تجب اعادة اكتشاف الأهمية يجب وجوبا لا يقبل أي غفلة، اعادةُ النظر في تقدير سلامة الأحكام التي ورثناها من القديم أو من الجديد الذي يوشك على المغادرة للماضي، وغالب ثقافتنا من القسم الأخير! لذا يكبر فصل مراجعة المسلَّمات. وهذا ما دعونا له دائماً وندعو.
وكما نحن في حال فهم آخر، نحن في حال عرض حقائق جديدة الحت علينا بالتوقف وإعادة النظر. وقد كان هذا الأخير شاغلي الثقافي في السنتين الاخيرتين وأكثرت من الكتابة فيه، في مسلمات نقدية ادبية وسياسية فكرية ومواقفنا وسلوكنا من احداث وتحولات مرّت. مفردات كثيرة تحتاج الى نظر من زوايا أُخر. فلا ادعاء قدر ما هنالك من تراجع خطواتٍ للنظر من جديد وبوضوحٍ اكثر والتثبت مما كان يُشكل قناعة من قبل. وعلى العكس من هذا نقرأ رسائل واطاريح، فهي تعيد ما قيل وتؤكد من جديد ما صرنا نشكك بسلامته.
وهنا يتحتم ذكر أن صفات التحول هذه، المتغيرات أو المستجدات، هي التي ترسم عائدية النص إلى صاحبه أو الى كاتبه ومؤلفه. فهي ليست بيوغرافيا قدر ما هي حضور روحي وثقافي. حضور روح الفاعل والثقافة الفاعلة في تنامي النص وبلاغته أو عافيته الاسلوبية.
فالخاصة هنا بمعنى المستجدة التي ظهر بها عما هو سائد، والمائزة والمختلفة ضمن حشد.
التاريخ الادبي التقليدي، في كثير منه، سجل من نوع قريب للأحوال المدنية. في النقد الادبي الجديد كشف بتوالي صياغات التعبير وتوالي الاجواء والأفكار. وهنا الحضور الاقوى والحقيقي للمؤلف يكمله الحضور الفكري والمعرفي اللابد منهما لإثراء النص أو الكتابة. الإبداع غير التكرار وهذا واضح للجميع فلماذا نغفل عنه؟
لذلك، وبهذه التميزات والخصائص، تكون دعوى موت المؤلف باطلة، من حيث هو صائغ تراكيب جديدة ورسّام صِيَغ ومجدهُ اسلوبه الخاص وأفكاره الخاصة والعالم، الذي يتجول فيه ويكتب فيه مرئياته وكشوفاته ومخاطباته.
وهنا ليس "مؤلِّفا عاما" – عاما ضمن التنظير الجمعي، كما تقول "ناس" وتُهمل العبقريات وأصحاب الأرواح المبدعة وإبداعهم ومازيا الحضور الإنساني الخاصة بهم أو التي ينمازون بها.
هكذا اوصلتنا عودتنا للنص عودةً أخرى الى قضية موت المؤلف واهتمامنا من جديد بحيويته اعادت لنا حياته! وحين لا خصائص ولا امتيازات أو مستجدات ولا معالم اسلوبية تميز المؤلف وتمنحه حياة، يكون النص قد غاب في "العام" وغاب قبله مؤلفه أو، مات. مات قبل نصّه. لان الكتابة انجزتها سلفيات كانت ولا جديد. لم يكن هو فاعلا، لم يكن منتجا لما يميز كتابته. حين لم يميز أحد كتابته، لم يميزه احد!
والخاص يقودنا لحضور الجمالي فيهدأ استرسالنا ونتريث امام حكم قديم جديد محتفظ برونقه، ذلكم هو النظر الى العمل الأدبي بكيانه الواسع والمتكامل على انه عمل جمالي وتقويمه يجب ان يكون بالمعايير الجمالية. لكن في هذا تعسف وانتقاص من العمل في جانب او جوانب منه مثلما فيه تزكية هلامية، تخلط الأسلوب والخبرة وروح الفن بالمدى الاستعاري لعموم العمل. صعب تفريط أو تفريق المكونات الجمالية في العمل وصعب ايضا عزلها عن الموضوعية وعن "نبض التقنية" المتغير والذي غالبا ما يصحب التجديد.
النص، الكتاب، العمل الادبي "منشأة لغوية كاملة" حية متحركة من بدء الكتاب أو النص الى أخره. هو يرسم عملا، هو العمل الادبي. وتقويم جانب على مبعدة من الجوانب الاخرى ليس في صالح العمل والإبداع او التميز. الحضور الجمالي في جميع مكونات النص. وهو حضور ملون ومتنوع. وهو بكليته وأنواعه ومواقعه، يمنح الكتابة حياة فيها اشراقات جديدة مفعمة بالحيوية وروح الانتصار على المألوف والسائد و... الموروث!
التصنيف من أجل الدراسة ليس نقدا هو تعليم والتعليم غير النقد وتعليم الأدب غير نقده. ولذلك نُخرج كراسات الطلبة والمناهج التعليمية وتقسيم المكونات وفصلها لتكون لها مهمة تعليمية، ولكل مرتبة من الدراسة احترامها المناسب.