خالتي العزيزة

ثقافة 2024/05/28
...

 حاتم حسين

حين هدأت نفسه واستقرّت بدأت الصور تترى أمام عينيه، أعاد إلى ذهنه المشوّش تلك اللحظات  التي فقد فيها إرادة الاختيار، كانت خالتُه أرقّ من أمّه في حنوها عليه، تعامله تلك المعاملة التي جعلت عينيه تسيل وتنفجر بالدموع وهو يقضي كلّ أوقاته معها، انتشلته من الضياع والتسكع بالدروب بعد وفاة أمّه حتى أنّه أكمل دراسته الإعدادية لحرصها ومتابعتها له، وجاء بمعدل يؤهله الدخول إلى أحدى الجامعات المميّزة، في هذه اللحظة التي وجد نفسه مُحاصراً بين جدران أربعة، هجم عليه  اليأس، وهو يتعذّب عذاب الضمير الذي جعله الآن يدرك جسامة الجريمة التي قام بها مع صديقه، بل اسودّت الحياة بعينيه، وهو  يُطْبق بقبضته على فمها، كان قويّاً، مفتولَ العضلات، يذهب كلّ يوم إلى (الجم) ليزداد قوّة، ولكن..؟
على من وقعت وأصابت هذه القوة؟!
يريد أن يُسِكتُها بكلتا يديه، وهي ضعيفة، تقاومه للإفلات من قبضته، تداعت أمام عينيهِ، سارحا، كيف كانت تُقبّل يده كلّما ساعدها في عمل البيت، وهي تصنع، وتطبخ، وتقدّم له أشهى الأكلات التي يحبّها، لكنّها الآن بين قبضتيه تصرخ، ويضغط ويقطع أنفاسها بكلّ جرأة، خاف من الفضحية، (حرامي
حرامي).
ضحكات خالتي مازالت ترنّ في أُذنيّ تتوسّل بي أن أنهض لتناول وجبات الغداء والعشاء والفطور، وأنا أضغط على فمها الذي طالما قبّلتني به وأكرمتني منذ طفولتي وموت أمي، لم تسكت خالتي، ولم تترك لي ولصديقي خياراً حتّى تهوّر، وجلب من المطبخ ذلك السكين الذي كنّا نقطّع به اللحوم، غرزها  بقوّة في رقبة خالتي، كانت الضربة بلا رحمة لسيدة نحيلة، وضعيفة لا تقوى على مقاومة رياضيّ يلعب ويرفع الأثقال.
رفست خالتي برجليها تحت وطء بطشِ الضربة، والصدمة، وانتزاع الروح من بين جنبيها، سالت دمِاؤها على مناطق من جسدي، ليتها كانت دمي، ليت الضربة قد توسّدت رقبتي أنا، أيّتها الخالة العزيزة التي تآمرنا على قتلها، اختلط الحبّ بالدم وصلة الرحم، والقبلات، اِصفرَّ ذلك الوجه وذبل، وهو يضغط  حتّى تراخت ذراعاها وهمد الجسد.  
عثرنا على المفتاح الذي كانت تخبّئه، ارتعبتُ من المشهد ،وتركت خالتي غارقة بدمِائها، ليت الطعنة كانت بي يا خالتي، ليت دمي اختلط مع دمائك الطاهرة، هربنا من الدار التي اتفقت مع صديقي أن نتقاسم كلّ ما نعثر عليه،أغلقنا الباب وخرجنا، لا أدري ما الذي جعل خالتي تعود في تلك اللحظة التي اقتحمنا البيت؟
فأنا أعرف كلّ أوقاتِ خروجها وعودتها، فهي تتأخر حين  تخرج للسوق والتبضع، وجلب (المسواك) لا أدري ما الّذي دعاها للعودة؟
ربما نسِيت محفظتها؟
المفأجاة الكبرى إنّنا صرنا أمامها وجهاً لوجه، لم تصدّق ماتراه، ونحن مبهوتين ننظر إليها، لكنّها صرخت بأعلى صوتها حين وقع نظرها على صديقي، ليتنا لم نفعل لها شيئاً الآن أراجع نفسي، وأنا داخل أسوار السجن، وصديقي معي ننتظر تنفيذ الأحكام بنا، لم يكن الهدف أن نقتل خالتي بل أن نسرقها.
ما الذي دعاك يا صديقي لطعنها وقتلها؟
قال: كنا سننفضح لو لم أقتلها.
أتعرف ما الذي فعلت؟
قضيت على مستقبلنا، وحياتنا سوف نذهب بدمائها إلى الله، ماذا سنقول لها، وهي بانتظارنا؟
تسألنا بأيّ ذنبٍ قُتلِت؟
شتمته بعصبية، وأنا فاقدٌ لكلِّ إحساس سوى الإحساس بالمرارة، ورد عليّ الشتيمة، وقال لي مؤنّباً أنت الذي اقترحت عليّ فكرة سرقة خالتِك.
لم يدر بخلدي أن أسرق أحدا، لكنّك وسوست كالشيطان في أُذني حتّى أطعتك ونفذت معك جريمتك، وها أنا اليوم معك مجرم ينتظر حبل المشنقة، فلا تَلمني يا صديقي الذي قادني إلى الدمار والهلاك، حتى أن أهلي وعشيرتي تخلّوا عنّي، لم يزرني أحدٌ منهم، كلّهم غاضبون ممّا فعلته وأقدمت عليه كلّها بسببك، كان بإمكانك أن تسرقها وحدك من دون أن تُورّطني معك؟
أنا مثلك حزين لم أحسب حِساب الخبز والملح، ونحن نجلس في غرفة، كرهنا بعضنا أشدّ الكره، أحيانا يكون الموت أشرف، وأرحم من عذاب الضمير. لم تترك لنا الخيار في تلك اللحظة التي ضربتُ رأسي بالجدار عدّة مرات كي أنزف وأموت، أن أُفنى واتلاشى في هذه اللحظة، من يؤدّبني ويقرص أذنيّ، كنت أخضع لكلِّ توجيهات خالتي، عقوبة مشوبة ومختلطة بالحبّ وهي تقوّم سلوكي لكي أكون عضوا نافعا بالمجتمع.. أنا الذي قضيت على خالتي  ومستقبلي.
عقوبتي لا يجدي معها الندم أو إعادة إصلاح الذات.. عقوبتي الموت المحتّم جراء هذه الفاجعة المهولة، وما أقدمنا عليه، ليتني فديتك يا خالتي، ليتني متّ قبل أن أتورّط بدمك. لكن الآوان قد فات حين فاحت رائحة الجثة، وبدأ قلق الجيران، اتصلوا  بالشرطة، ليتعرّفوا على الجريمة التي اعترفنا بها بعد مضي عشر ساعات من تقاسم الأوراق النقدية، كنت مذهولاً من هول الحادثة، لم أصدق أنّي أقدمت مع صديقي على هذه الجريمة التي لم أحسب حسابها، جريمة أشبه ما تكون بالحلم؟
تراءت لي صورة خالتي وهي تتطلع نحوي بإشفاق وحزن شديد، كأنّها تريد وتطالب بإِيقاف  تنفيذ العقوبة، حتّى في هذه اللحظة سبقتني بحنانها وكرمها.
خالتي الجميلة.
أنا لا استحق العيش بعدك دقيقة واحدة، لابدّ أن أدفع ثمن دمائك الطاهرة البريئة وكم تمنيت أن أكون لك ردءاً ودرعاً ومعينا في شيخوختك لا أن اتورّط بدمائك.. وها أنا أدفع ثمن طيشي، وحماقتي، يا خالتي العزيزة.