الفلسفة تاريخ للعالم

ثقافة 2024/05/29
...

  حازم رعد

في كل تجربة نقتحمها في حياتنا اليومية ندرك ضرورة العودة إلى التاريخ كخبرة جاهزة تنبئنا لا أقل بأنصاف الحلول والإشارات، وحضور التاريخ مثلما هو مهم في تجربتنا {في فهم اليومي وما يحدث} هو مهم كذلك لفهم الفلسفة، وهذه الأخيرة استثناء مؤكد، فهي بدون فهم تاريخها لا يمكن الوقوف على فهمها، ولا يستطاع إدراك مسارات العقل الفلسفي في التاريخ حتى وصل الينا بهذا الشكل العملاق الذي يتكثف فيه كل تاريخ العالم المسمى فلسفة.

فتاريخ الفلسفة كما يقول عبد الرحمن بدوي "هو جزء من التاريخ العام الأدبي، وهذا التاريخ يبحث في المذاهب المختلفة والآراء المتعارضة التي ظهرت على مر عصور الفلسفة فكان تاريخ الفلسفة إذاً هو تاريخ الشيع المختلفة وتنازعها". كذلك لا يمكن التفلسف في الحاضر ولا توقع المستقبل من غير فهم التاريخ، بل الأكثر من هذا أنه لا يتصور قيام فكرة فلسفية في الحاضر من دون المرور بتاريخ الفلسفة، فالفلسفة عبارة عن ركام معرفي يتقوَّم بعضه ببعض من غير تجاوز أو طرح لأية فكرة سابقة أو حاضرة. 

إن في تاريخ الفلسفة مروراً على الأفكار والنظريات والكيفية التي من خلالها نشأت ونضجت وتطورت حتى وصلتنا، فالتاريخ الفلسفي سبب تشكل الفكر الفلسفي في الحاضر، وأيضاً من خلال اطلاعنا على تاريخ الأفكار والنظريات يتشكل الحس النقدي عند الإنسان وهذا الحس أحد أهم خصائص التفكير الفلسفي، فالتاريخ بما يوفره لنا من مادة فكرية للقياس والمقارنة ومطارحة الأفكار فيما بينها يبدأ نمو النشاط النقدي في فاهمة الإنسان، ومن هنا تبدأ عملية الانتاج والتجديد، لذا "إن الإنسان لكي يحسن القفز إلى الأمام، يجب أن يتراجع الى الوراء" كما يقول ليبنتز، فشرط التقدم العودة قليلاً إلى الوراء لمعرفة ما يلزم ذلك التقدم. 

يوفر لنا تاريخ الفلسفة معرفة بالأخطاء التي وقع بها المشتغلون في حقلي الفلسفة والعلم، كما نتعرف عبره على كيفية وماهية الاقتراحات التي استخدموها لمعالجة تلك الأخطاء، فإذا ما عرفنا ذلك تمكنا من تفاديها ودفعها وعدم تكرار فعلتهم بالوقوع فيها، فهو على ذلك خبرة جاهزة وكافية عن الفلسفة وطريقتها في التفكير وأسلوبها في الإعراض للأشياء ومواجهة الأحداث كما هو ذخيرة ستراتيجية من مناهج البحث وقواعد الاستدلال وأدوات التصرف مع "الفكرة والحدث والأشياء" وعن وظيفة هذا اللون من الدراسات في حلحلة المشكلات واختراع المفاهيم وإنتاجها للأفكار.

نحن من خلال تاريخ الفلسفة نقف على حقيقة ما جرى في الماضي وندرك التاريخ البشري لأن هذا التاريخ "البشري وتاريخ العالم" كان صناعة حصرية للنخب من الفلاسفة "فيثاغور وأفلاطون وأرسطو، والكندي والمعتزلة والفارابي وابن رشد، وابن سينا، والمير داماد، والملا صدرا، وتوماس هوبز وفولتير، ومونتسكيو، وجان جام روسو، ودفيد هيوم، وإيمانويل كانط وفريدريك هيجل وكارل ماركس وبرغسون واغوست كونت، وجان ستيورات مل وبيرس ووليم جيمس وجون ديوي" أو من هم على ضفاف الفلسفة أمثال "الأفغاني والطهطاوي وشبلي شميل، ومدني صالح، وحسام الدين الآلوسي" وغيرهم.

إن تاريخ الفلسفة هو في حقيقته دربة ومران متواصل لفهم حركة العقل في العالم، ولتكوين رؤية عنه وعن الحياة وطرق العيش وأشكال التصرف من أول نشأته حتى نضجه وتطوره ليتمكن الإنسان من بلوغ مرتبة التفلسف وفهم السيرورات التي تضعه في الطريق. 

إن لفهم لغة الفلسفة والبراعة فيها عند المشتغلين في هذا الحقل المعرفي وصيرورتهم مجتهدين فيه تتوقف على الاطلاع وفهم تاريخ الفلسفة ومطارحة أفكار هذا التاريخ والوقوف على الظروف والإرهاصات والحاجة التي دعت ابتكار الفكرة الفلسفية، وبالتالي نفهم كيفية وآلية نشأة النظريات والمذاهب والاتجاهات الفلسفية، ونفهم أيضاً خصائص التفكير الفلسفي، وهكذا إذن فلا ينفك تاريخ الفلسفة عن التفلسف، وأن كل واحد منهما يصنع الآخر ويمده بالأدوات والمناهج اللازمة للاستمرار ومداومة الفاعلية.

إن تاريخ الفلسفة ملحمة كبيرة خاضها الإنسان الباحث عن الحقيقة المتعطش للمعرفة هي "اوديسا" الإنسان في الأرض. 

إن هذا التاريخ عبارة عن عملية جدلية بين الفلسفة وداخل الفضاء الفلسفي، إذ تنضوي على أطراف صراع النفي والإثبات الهدم والبناء الرفض والقبول، وهكذا دواليك تجري الفلسفة في التاريخ. 

إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ تجربة الإنسان على هذه المعمورة، ومن غير هذا التاريخ يبقى الإنسان في حاجة دائمة إلى ما يجعله يكابد ويصارع الحياة لينعم بالبقاء.