التأريخ السياسي للتصفيق
ميغان جاربر
ترجمة: عبود الجابري
في القرن السابع، وفي ذروة انحطاط الامبراطوريَّة الرومانيَّة، وضع الامبرطور هرقل خططاً للقاء ملكٍ بربري، وكان يزمع تخويف خصمه أثناء ذلك اللقاء، لكنه كان يعلم أنَّ الجيش الروماني، في حالته الضعيفة، لم يعد مخيفاً كما يراد له، لا سيما عندما يكون المقصود بالترهيب بربرياً. لذلك استأجر الامبراطور مجموعة من الرجال لزيادة جحافله، ولكنْ لأغراضٍ ليست عسكريَّة، وإنما لأغراضٍ موسيقيَّة، فقد كانت مهمة هؤلاء الرجال أنْ يصفقوا.
العلماء ليسوا متأكدين تمامًا من أصول التصفيق، وما يعرفونه هو أنَّ التصفيق قديمٌ جداً وشائعٌ جداً، مظهر احتفالي من مظاهر الثقافة الإنسانيَّة، الأطفال يفعلون ذلك، الكتاب المقدس يورده في متون نصوصه كمظهرٍ من مظاهر التزكية والاحتفال “وأعطوه ملكًا ومسحه يهوياداع وبنوه، فصفقوا بأيديهم وقالوا: ليحيا الملك”
(العهد القديم، الإصحاح الثالث والعشرون)
غير أنَّ التصفيق كان له طابع رسمي - في الثقافة الغربيَّة على الأقل - وفي المسرح على وجه التحديد، كانت كلمة “Plaudits” مشتقة من اللاتينيَّة وتعني”الضرب” أول “الانفجار” وهي الطريقة الشائعة لإنهاء المسرحيَّة، حيث يصرخ الممثل في ختام العرض الرئيسي ، “Valete et plaudite!” “ وداعًا وتصفيق!”) - ما يشير إلى الجمهور، بالطريقة التي يفضلها المسرحيون على مدى قرون، ليعلنوا أن الوقت قد حان لتقديم الثناء، وهذا يحيلنا ظاهريًا، إلى واحدة من أولى إشارات التصفيق البشري في العالم.
مع اندماج المسرح والسياسة - أصبح التصفيق وسيلة القادة للتفاعل بشكل مباشر أو غير مباشر مع مواطنيهم، فكانت إحدى الطرق الرئيسة التي استخدمها السياسيون لتقييم مكانتهم مع الناس هي قياس التحيات التي يتلقونها عندما يدخلون أماكن الاحتفالات، وتسلِّم رسائل شيشرون بحقيقة أنَّ “مشاعرَ الشعبِ الرومانيِّ تظهرُ بشكلٍ أفضلَ في المسرح” لا سيما بعد أنْ أصبح القادة أذكياء في قراءة التصفيق البشري، يقرؤون الصوت، السرعة، والإيقاع، والفترة الزمنيَّة، من تصفيق الجماهير، ويتخذونها أدلة على حظوظهم السياسيَّة.
يقول جريج ألدريت، أستاذ التاريخ والدراسات الإنسانيَّة بجامعة ويسكونسن، ومؤلف كتاب الإيماءات والتهليل في روما القديمة: “يمكنكَ تقريباً التفكيرُ بهذا الفعل على أنَّهُ استطلاعٌ قديم، هذه هي الطريقة التي تقيس بها الناس، وتستطلع مشاعرهم” وقبل أن تدهمنا طرق الاستطلاع الالكترونيَّة، كان القادة الرومان يجمعون البيانات حول الأشخاص من خلال الاستماع إلى تصفيقهم، وكانوا، كونهم بشرًا وسياسيين في الوقت نفسه، يقارنون نتائجهم باستطلاعات آراء الآخرين - بالتصفيق الذي يحظى به منافسوهم.
حين انتبه الامبراطور كاليجولا، أن أحد الممثلين تلقى استحساناً أكثر مما يستحق قالَ وهو يمسك بقبضة سيفه: “أتّمنّى أن يكونَ للشعبِ الرومانيّ رقبةً واحدة”، ولم يكنْ كاليجولا السياسي الأول ولا الأخير الذي وجدَ نفسَه في نهاية العمل شاهداً على أحد استطلاعات الرأي.
في روما، كما في الجمهوريات التي تحاول تقليدها، كان المسرح سياسة، والعكس صحيح. هناك، “حتّى كونك حاكماً يعني أنْ تكونَ مُمثِّلاً”، كما يُشير “ألدريت”، “وما يحاول الحصول عليه-هذا الحاكم- هو موافقة الجمهور”، بينما تقول الأسطورة إنَّ كلمات أغسطس المحتِضرة هي: “إذا لعبتَ دوري جيّداً، فَصَفِّقْ بيديكَ، واطردْني منَ المنصَّةِ بالتصفيق”.
وكان السياسيون يعتمدون هذه القاعدة لتأبيد ذواتهم من خلال قراءة المزاج الشعبي، فكان شيشرون، عميد السياسة، يرسل أصدقاءه للتسكع حول المسرح، وتدوين الملاحظات لمعرفة نوع التحيَّة التي يحصل عليها كل سياسيٍّ عند دخوله لساحة الاحتفال، من الأفضل معرفة من يحبه الناس، ومن لا يحبونه، بينما كان التصفيق البشري هو معيار التقييم.
ويشير ألدريت إلى أن “الحشود القديمة كانت تميل إلى أن تكون أكثر تفاعلاً مما هي عليه اليوم”. “كان هناك الكثير من الرموز في أحاديث الحشود، وخاصة في العالم اليوناني الروماني، حيث كانت الحشود - خاصة في المدن - جيدة حقًا في توصيل الرسائل من خلال التصفيقِ الإيقاعي، الذي يقترن أحيانًا بالهتافات”.
بحلول الأيام الأولى للإمبراطوريَّة، أصبحت أنظمة التصفيق هذه أكثر تفصيلاً، مع توطيد السلطة تحت شخص واحد، وأصبحَ الاستحسان أكثر منهجيَّة وأكثر دقة، حيث لم يعد التصفيق يعني ببساطة “التصفيق”، بينما قام الجمهور اليوناني الروماني بالتصفيق بنفس الطريقة التي نتبعها اليوم.
كما تأثرت طقوس التصفيق بتوسع روما. من جانبه، قام نيرون بتعديل أسلوب التصفيق في روما بعد رحلة إلى الإسكندريَّة، حيث وجد نفسه معجباً بالطريقة المصريَّة في إحداث الضجيج، فاستدعى الإمبراطور، حسب رواية المؤرخ سوتونيوس، المزيد من الرجال من الإسكندريَّة، ولم يكتف بذلك، فقد اختار بعض الشباب من مرتبات الجيش، وأكثر من خمسة آلاف شاب قوي من عامة الشعب، ليتم تقسيمهم إلى مجموعات ليتعلموا أساليب التصفيق الإسكندري المصاحب للغناء، وكان هؤلاء الرجال يمتازون بشعرهم الكثيف وملابسهم الجميلة، وكانت أيديهم اليسرى عارية وبلا أكمام.
ما أراد نيرون تقليده هو أسلوب الإسكندريين المتنوع في إحداث الضجيج، والذي صنفته النصوص حينذاك إلى ثلاث فئات: “الطوب” و”بلاط السقف” و”النحل”، ويبدو أن النوعين الأولين يشيران إلى التصفيق كما نعرفه اليوم - “الطوب” الذي يصف التصفيق المسطح، و”بلاط السقف” (مستوحى من بلاط السقف المنحني الشائع في العمارة الرومانيَّة) الذي يصف النسخة ذات الكوب، بينما يتوقع أنَّ النوع الثالث يشير إلى التصفيق الصوتي بدلاً من التصفيق الميكانيكي، إلى الطنين أو الارتعاش الذي من شأنه أنْ يجعل الحشد المتجمع يبدو وكأنه سربٌ هائلٌ من النحل.
لذلك أصبح التصفيق تقنيَّة سياسيَّة، أداة يستخدمها الحكام والمحكومون على حد سواء للتواصل مع بعضهم البعض. لن يقتصر هذا بالطبع على روما. أو على العالم القديم، حيث يصف سولجينتسين مؤتمر الحزب المحلي الذي حضره جوزيف ستالين في أرخبيل جولاج، إذ نهض الحاضرون لتحيَّة القائد، ما أدى إلى تصفيق استمر عشر دقائق، حيث سبقت ستالين سمعته بالطبع، ولم يرغب أحد أنْ يكون أول من يتوقف عن التصفيق للديكتاتور، غير أن مدير مصنع الورق جلس قبل الجميع، ما جعل بقيَّة الجمهور يحذو حذوه، بينما تم اعتقال المدير بعد انتهاء الاجتماع.
قام فنانو الأداء الفرنسيون، بعد قرون، بإضفاء الطابع المؤسسي بشكلٍ أكبر من خلال الممارسة المعروفة باسم “claque”وتعني “المصفقون المستأجرون” والتي ابتكرها الشاعر الفرنسي في القرن السادس عشر جان دورا، أو ربما يكون قد اتهمَ بذلك، حين اشترى مجموعة من التذاكر لمسرحياته، ووزَّعها بين الأشخاص الذين وعدوا بالتصفيق في نهاية العروض.
بحلول أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، أصبح التصفيق المستأجَر مؤسَّسياً، وتولَّت إدارته وكالة متخصصة في باريس، ويصف المؤرخ ويليام ب. كوهين، في كتاب (الحكومة الحضريَّة وصعود المدينة الفرنسيَّة) قوائم الأسعار المعقدة التي يوزعها هؤلاء المتملقون الزائفون بين الرعاة المحتملين، إذ يكون السعر حسب نوع التصفيق، إن كان مهذباً، حماسياً، أو تصفيق مضايقات موجهة إلى المنافس، مثلما تمَّ تصنيف الحاضرين المستأجرين، فكان هناك الريور (الضاحكون)، الذين يضحكون بصوتٍ عالٍ على النكات، والناشرون، الذين يتظاهرون بالدموع تعبيراً عن التأثر، والمفوضون، الذين يحفظون المسرحيَّة أو المقطوعة الموسيقيَّة، ثم يلفتون الانتباه إلى أفضل أجزائها، والمدغدغون الذين يحافظون على مزاج الجمهور جيدًا بعدما يقدم لها الحد الأدنى من الشراب.
المصدر: The Atlantic Magazine
- ميغان جاربر
كاتبة في مجلة The Atlantic، تعنى بالكتابة عن التقاطع بين السياسة والثقافة، حائزة على جائزة ميرور، مراسلة سابقة لمختبر نيمان للصحافة، وناقدة في مجلة كولومبيا، وهي مؤلفة كتاب “في التوجيه الخاطئ: السحر والفوضى والسياسة الأمريكيَّة”.