أحمد عبد الحسين
ما الذي يمكن أن نكتبه عن محرقة رفح؟
ما الذي يمكن أن يُقال عن إبادة جماعية؟
قرأنا قصائد الشعراء اليهود الذين تعرضوا هم وعائلاتهم للهولوكوست. لا شيء فيها سوى الرعب والغمغمة التي تتشبه بالصمت. وإلا ما الذي في قصائد بول تسيلان يمكن أن يكون أقوى أثراً من المدونة التاريخية؟ ما الذي يمكن لناجٍ من المذبحة وشاهد عليها أن يكتب؟
شهد شعراء المحرقة على عودة الإنسانية إلى سيرتها الأولى، إلى الماء والطين، لكنْ ليس ثمت من يعيد عجن هذه الخميرة لبدء الخلق من جديد. ذلك أن الأقوياء الذين قاموا بإبادة الخلق يقفون لا في وجه الإنسان بل في وجه الله الذي خلقه. كتب تسيلان:
لا أحد يشكّلنا مرة أخرى من التراب والطين.
لا أحد يستحضر غبارنا.
لا أحد.
حين قال أدورنو: “كتابة الشعر بعد المحرقة هي عمل همجي”؛ كان على حقّ. الأمر أشبه بالخيانة، خيانة لا للواقعة وضحاياها فحسب، بل للشعر والكتابة أيضاً. فنحن إذا حاولنا كتابة الإبادة أدخلنا الشعر في صراع غير عادل مع كهوف عقل الإنسان المظلمة ومع عقائده الأشد ظلاماً، وأبداً لن ينتصر القاموس على العقيدة التي هي حديد ونار.
ما يفعله الصهاينة اليوم في غزة، ما فعلوه أمس في رفح، أقسى مما فُعل بهم وأكثر وحشية ولا إنسانية، لربما هي فرصتهم الأخيرة لنقل أعباء الإبادة من أكتافهم ووضعها على أكتاف قوم آخرين. لأن جعل الناس يتألمون بدلاً عنّا، هي آلية دفاع بدائية وقديمة تفعلها الكائنات لتخفيف آلامها.
كلّ من كتبوا المحرقة من اليهود توجهوا مباشرة إلى الله لا إلى البشر، فما من أحد يستحق أن يتكلموا معه حول أمر تجاوز البشريّ ودخل في برزخ لا اسم له، مزيج من الإلهيّ والشيطانيّ. الشاعر حاييم غوري، استعاد في قصائده ذبح إبراهيم لابنه، فكتب هذه الجملة: “من يومها نولد وفي قلوبنا سكّين”.
يجد الشاعر العربيّ نفسه اليوم في المطرح الذي كان عليه الشاعر اليهودي الخارج من المحارق، الحيرة ذاتها وانعدام جدوى الكلام، وغياب مَن يمكن أن نخاطبه فلا أحد يفهم ما يجري.
ما الذي يحدث حين توقن بأن هناك كلمة في كتاب قديم تنص على ضرورة استئصالك أنت وكل بني عرقك، وأن هناك من يؤمن عميقاً بهذه الكلمة وهو مستعد لذبحك بالسكين الإبراهيمي ذاته قرباناً لعقيدة تصارعت قروناً ضدّ الأخلاق والضمير والإنسانية وانتصرت عليهم جميعاً.
والآن
لمن يتوجه الشاعر إذا كتب عن الإبادة الجماعية في رفح؟ كيف يمكن للخيال المداف بكلماتٍ أن يصل إلى حضور وقوة مشهد رؤوس الأطفال المقطوعة والجثث المتفحمة المركومة بعضها فوق بعض؟
قرأت قبل قليل لشاعر عربيّ يشبّه ما تفعله الصهيونية بما فعله فرعون حين أمر بقتل كل الأطفال لينجو من موسى، ولم ينجُ.
ربما كان الأمر كذلك. ربما في كل هذا الذبح يريدون أن يصلوا إلى طفل واحد، طفل النبوءة الذي هو وحده سيكون قادراً على الكلام.