هل يمكن أن نؤسس لتقاليد ثقافيَّة جديدة اليوم؟

ثقافة 2024/05/29
...




صفاء ذياب




 إنَّنا نعيش في عالم لا يستطيع أحد فهم ما يحدث فيه... بهذه الجملة يتحدّث الكثير من المعنيين بالشأن الثقافي، لاسيّما أنّنا بدأنا ندخل كلّ ما هو تقني ويرتبط بوسائل التواصل الاجتماعي، بما نعيش وما نكتب وما نفكر فيه أيضاً.

منذ عقود طويلة ونحن نتساءل عن تقاليدنا الثقافية التي تتغيّر مع تغيّر النظام السياسي، وبالتالي الاجتماعي، اللذين يسهمان بشكل فاعل في تغيّر طرائق نظرتنا للثقافة، والأيديولوجيات التي تتحكّم فيها بطريقة أو أخرى... فلا يمكن أن تخرج تقاليد أية ثقافة عن أيديولوجية تسيّرها حسب وجهة الجهات التي تدعمها أو تُسهم في تحريها نحو هذا الاتجاه أو ذاك...


غير أنّ أحاديثنا السابقة عن تلك التقاليد لم تخرج عن الفنون المعروفة، تشكيلاً ونحتاً ومسرحاً وسينما وأدباً بأنواعه وأجناسه كلّها... إلاَّ أنّنا نعيش الآن في زمن انفرطت فيه أية تقاليد.. فشاعر فاشل لا يستطيع أن يكتب نصاً حقيقياً يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى رسام يطالب الوزارات المعنية بفتح حوار معه عن تاريخ الفن... أو شاب سمع أنَّ هناك فنّاً يسمى (الرواية) ينتج نصاً لا رابط فيه إلا الكلمات المرصوفة بشكل مبعثر...

وهكذا تضيع التقاليد الثقافية، ويمكننا أن نتساءل هنا: كيف يمكن أن نؤسس لتقاليد ثقافية لما بعد الميديا الجديدة؟

 إمكانات العالمية

يشير الدكتور محمد حسين الرفاعي إلى أنَّ تساؤل التأسيس يرتبط على الدوام بما يمكن أن نحدِّدَهُ ضمن إطار العلاقة مع العالَم. ومتى أُخِذَتِ العلاقةُ مع العالَم على أنَّها ضرب من ضروب الفعل الثقافي نحو العالَميَّة، نكون أمام تساؤل جديد كُلِّيَّاً هو: أيّة علاقة مع العالَميَّة يمكن احتمالها؛ أو توفيرُ إمكانها، أو إنتاجها، ضمن العالَم ما بعد السايبر؟ أين نتموضع؟ أو أين نُمَوْضِعُ (نسبةً إلى المَوْضَعَة Objectivation) ذاتَ أنفسِنا العميقة؟ إنَّها تلك العلاقة التي تفهم التقليد (الأصالة والتأصيل) على أنَّه إمكان من إمكانات الوجود، على نحوٍ ثقافي، في العالَم. إنَّ ما هو مُتساءَل عنه ههنا ليس تأسيساً، أو محاولة لتأسيس تقليد جديد، بل هو محاولة لبناء علاقة، في أنَّها، وفي كيف أنَّها، منفتحةً على العالَم، على نحو الإنسان العالمي اليوم؛ أي من جهة أنَّ الإشكالات والإشكاليات المحليَّة أصبحت عالَميَّة أو لا تكون. وهكذا، ثَمَّةَ استحالة في فهم التأسيس بمعزل عن العالَميَّة. لأنَّنا كائنات عالَميَّة على الرَّغْمِ مِنْ أنوفنا. إذن ما يجب أن نتحدّى به ذاتَ أنفسنا العميقة هو الكينونة من جديد، أو كيف يمكن أن نكون من جديد، عَبرَ الميديا الجديدة؟ أو كيف نؤسِّسَ لـ[أن- نكون- معاً] أي مع العالَم، والمجتمع العالَمي، والإنسان العالَمي، بضروب الاختلاف والتعدُّد والتنوع كلّها؟ ذلك، يتعالق على نحوٍ بنيوي مع كوننا أكثر من الهُويَّة. نحن الكائنات العالَميَّة اليوم أكثر من الهُويَّة، أو لا نكون. بمعنى، أنَّ عالَم المضامين الموضوعيَّة التي من شأن الفكر، المُعقلَنة قبليَّاً، هي في صيرورة إنتاج وإعادة إنتاج لذاتِ أنفسنا العميقة. وهذه لا تُفهم على أنَّها ضرب من ضروب التُّراث، أو تراثيَّتُنا إزاء العالَم؛ لا؛ بل هي تُؤخَذُ من جهة أنَّ الميديا الجديدة هي في الحقيقة الثقافة الجديدة، وبالتالي هي حقل العلاقة التي تخصُّ الوجود العالَمي الجديد. هذا الأخير، يؤسّس لهُوية عالَميَّة جديدة، فاتحةً آفاق إمكانات التذوُّتِ Subjectivation من جديد. إنَّ ما هو جديد في الميديا هو الجديد في الميديا العالَمية. ما أن نسمع العالَميَّة، حتَّى نتحسَّسَ تراثنا، وأسلحة التُّراث التي يمكن أن تعيد تأسيس التقليد من جديد. هذه هلوسة الفكر العربيّ، ولاسيّما الإسلاموية العمياء، والعلمانية العمياء، أو حتَّى القومية والشيوعية. أعني تلك المنظومات الفكريَّة التي تفترض أنَّ الآيديولوجيا تُؤخَذُ، وتُفهمُ، بالانطلاق من كونها خياراً واختياراً بين نماذج وعي جاهزة. ولكنَّ الآيديولوجيا من جهة كونها التعبير الصريح عن شروط مجتمعيَّة تاريخية، أصبحت، بَعْدَ حينٍ، بِنيويَّة، تُفهم اليوم على أنَّها منظومة الوجود في العالَم. وهذا الأخير إنَّما هو حقل السايبر. نحن، من جهة ما يخصُّنا في الصورة المحضة- الخالصة، لسنا أكثر من إمكان من إمكانات العالَميَّة، أو لا نكون.

 واقع هجين

ويرى الفنان المسرحي الدكتور ماهر الكتيباني أنَّ الميديا الجديدة تشغل بوسائطها التواصلية الحياة الاجتماعية وتلعب دوراً حاسماً فيها بوصفها أدوات للتأثير في المستويات كافة، وتطوّراتها الرقمية غير متوقّفة تتسارع لتحوّل الواقع المادّي إلى واقع افتراضي صرف لسبب واضح هو أنَّ وسائل التواصل الإلكترونية حاضرة مع الفرد على مدار الساعة، وهذا أمر باقٍ وأصيل في الوقت الحاضر، يجعل الذهن منشغلاً بلا انقطاع، وعليه فإنَّ التقاليد التي تنشأ وتتراكم على وفق هذه التفاعلات التكنولوجية تفرض واقعاً ثقافياً جديداً ومتجدّداً لا يمكن قياس قيمته الأساسية إلَّا بوسائطها ذاتها، بإزاحة قصدية للتقاليد التي أصبحت متحفية في الظرف الراهن، فروح العصر تفرض هيمنتها الرقمية التي أتاحت رؤى جديدة، بل ومهارات تقنية وفنية مثيرة على صعيد الذكاء الاصطناعي وصناعة المحتوى الرائج لكلِّ موضوع يمكن أن يشكّل مادةً للتلقي، ما حتَّم على المؤسّسات ذات الصلة بالسمعي والمرئي إيجاد البدائل المباشرة والسريعة للحفاظ على كيانها ومتابعيها. فالمتلقّي المستهدف أضحى ناشراً ومعبّراً وناشطاً في الفضاء الافتراضي، وما هو متحقّق فعلاً أنَّ هذه الوسائط حتّمت أن تكون هناك تقاليد عامة تتخطّى حدود خرائط الجغرافيا التقليدية والهويات المحلّية التي ذوّبتها الميديا الجديدة. وأبسط مثال على ذلك الألعاب ذات الصيغة التفاعلية غير معلومة النهاية التي تتجدّد بتجدّد المشتركين المتفاعلين.

إنَّ حجم التطوّر والنمو الرقمي والوسائط التي تنقل المعلومات تجعل الواقع الثقافي هجيناً غير محدّد، والمقبل قريباً قطعاً يحمل الكثير من المدهش الذي يجعل ما نراه متفوّقاً الآن أثراً متحفياً لا أكثر.

 حماية الحرّية

ويقترح الشاعر السينمائي رعد مشتت أنَّ علينا العودة إلى صميم ما يصنع الثقافة ويمنحها رفعتها ونفاذها الفريد في تشكيل معنى وجودنا وقيمته، وأعني الحرية. فحماية حرّيتنا الحائرة بوجودنا، الذي صارت تتحكّم بمساراته منظومات من القوى والمصالح (بعضها لا شكَّ مُريب) ترى الثقافة وأسئلتها وبحثها ومنتجها المعرفي والجمالي مصدر خشية واضطراب كما لو أنَّه عدو مترفّع ينبغي مُناوأته وقطع أنفاسه، أمرٌ (وأعني حماية الحرّية) في غاية الأهمّية وربَّما ينبع من صميم قلقه السؤال، سؤالكم.

فالتحوّلات التي أحدثتها الميديا الجديدة التي لا تكف عن أن تتجدّد وتتعمّق آثارها في صميم حياتنا ووجودنا اليومي وصلاتنا وأفكارنا ومعارفنا ومزاجنا وغنى الحياة، أنَّنا في اشتباك فعّال مع بعضنا ومع بشر الكوكب أينما يكونون، هي كلّها جديرة بسؤال جراحي يتحرّى التأسيس لتقاليد ثقافية أرى من الاستحالة بمكان بناؤها من دون مؤسّسات ثقافية رصينة ومتخصّصة في الحقول الرفيعة للثقافة وهذا فضاء واسع يبدأ ربَّما بمراكز الدراسات والأبحاث الأكاديمية داخل الجامعات وخارجها، مروراً بالمتاحف والاتحادات والنقابات والمؤسّسات الثقافية المتخصّصة بالآداب والفنون بصنوفها وتياراتها كلّها، وتديرها عقول معنيّة وبعمق باشتغالاتها ويحكم مساراتها وتوجّهاتها مشروع وطني بنَّاء يعي خصوصية، بل وعبقرية المكان، موئل الحضارات والعلم والمعرفة الذي هو العراق، بيت التاريخ قبل أن يكون بيت الأديان والملل والطوائف من سكنة حواضره وأريافه الطيبين.

 هويات متجدّدة

ويتبادر إلى ذهن الكاتب الدكتور حسن البصام عدد من التساؤلات ونحن منجرفون مع انبهار الميديا الجديدة؛ منها: هل ثمة علاقة توازنية بين الميديا الجديدة والهوية الثقافية؟ هل تتقارب المجتمعات في منظوماتها الفكرية الاجتماعية وهي تسير بذات الممرّات الإعلامية المشاعة للجميع؟

هنا أعني: هل الذات سوف تنصهر مع الآخر من خلال التبدّلات العلائقية بين الفرد والمجتمع، وتغيّر أنساق الروابط ومفهوم السلوكيات والقيم، ونحن نتداخل بإيجابياتنا وسلبياتنا مع تأثيرات المحيط الإعلامي المتجدّد المتغيّر انتشاراً والذي امتلك سطوة ونفوذاً من الصعوبة الانعتاق منه، فقد أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من يومياتنا الثقافية؟

ويضيف أنَّ تأسيس قيم ثقافية وتقاليد معرفية بما ينسجم مع الكيان الثقافي والمادي لكلِّ مجتمع، يتطلّب التمسّك باللغة والتراث والثوابت الثقافية؛ وسط زحمة المتدافعين وهم يجوبون تجربة الميديا الجديدة التي لا تسعى إلى التوقف، وهي في كلِّ يوم ترتدي ثوباً جديداً مبهراً يستقطب الذائقة من دون أن تسعى لرفض اللوائح المجتمعية والأعراف والعلاقات التي لا تنسجم مع الهويّة الثقافية للذات الجامحة باتجاه التغيير والتجدّد على حساب ملامحها. وهذا لا يعني قطع الاتصال أو تحجيم التفاعلات مع الثقافات السائدة، إنَّما لا نترك ثقافة الميديا الجديدة تعيد تشكيل هويتنا وتغيّر ألوانها كلَّ حين، بل نسعى إلى تماسك خيوط المجتمع من خلال السيطرة والتحكّم بما ينسجم معها وتوظيف الطاقة الاتصالية الجبّارة في هذا المجال لا على حساب هويتنا... نحن بحاجة إلى الشعور بالانتماء لا أن نبرمج حياتنا وفق إعلاميات لمجتمعات مغايرة في قواعدها تصطدم مع معايير ثقافاتنا من خلال تجاوز الزمان والمكان الذي يشكّل خصوصية الوجود.

هنا ينبغي أن يكون للإعلام الجديد دور في إرساء قواعد الهويّة الثقافية وبناء واقع ثقافي؛ فالإعلام عاشق لكلِّ ما هو جديد وصادم ومدهش، وهو يسعى للانفلات من قيود القواعد وأطواقها، لأنَّ في تحديده هلاكه واندثاره.

الحاجة للتفكير

ويختتم الصحفي منتظر ناصر حديثنا مبيناً أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي فرضت واقعاً جديداً في حياتنا، إذ أحدثت انقلاباً هائلاً في الكثير من المفاهيم وغير العديد من التقاليد، وتمكّنت من خلق صالونات افتراضية تفاعلية لم تكن لتحصل سابقاً إلَّا من خلال مهرجانات وملتقيات ومنتديات وتجمّعات نخبوية، لكنَّ (تلك الصالونات الافتراضية) ظلّت تعاني من الفوضى وانعدام الضوابط، بسبب عجزها عن منع التطفّل والحد من مشاركة الغير أو تصدره، ولكنَّ هذا لا يقلّل من تأثيرها أو حيازتها الصدارة أحياناً على حساب التجمّعات الواقعية غير القادرة على التواصل والتفاعل المستمر، لكنَّ هذا قد يشهد تحسّناً في المستقبل القريب مع امتلاك النخبة لناصية تلك المواقع وإجادة التعامل معها، في ظلِّ صعود جيل جديد قادر على هضمها والتعاطي معها من دون حاجة لمساعدة من خارج النسق كما جرى ويجري مع الكثير من المثقفين.

ويضيف ناصر: ومن هنا تتولّد الحاجة للتفكير باجتراح سبل وطرق جديدة تواكب التطوّر لخلق أطر ثقافية من خلال العمل على نهج شامل يجمع بين الفهم العميق للتغيّرات التكنولوجية والتحوّلات الاجتماعية، بطرائق عديدة منها:

-  إنشاء منصّات للحوار بين مختلف الأجيال وتعزيز الموجود منها لضمان نجاح عملية الانتقال السلس للقيم الثقافية.

-  تطوير مهارات الفاعلين في الحقول الثقافية والعلمية لفهم تأثير التقنيات الحديثة على الثقافة والمجتمع.

-  تحفيز النقد والتحليل للتقنيات الرقمية مع الحفاظ على القيم والتراث الثقافي وتعزيزها من خلال دمجها بوسائل الإعلام الحديثة.

-  ترسيخ الهويّة الثقافية والفنية من خلال إشراك المجتمع في صناعة المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي والوسائل التفاعلية والتأسيس لمبادرات محلية في هذا الشأن، بالاستفادة من التجارب الدولية الرائدة.

-  التفكير بوضع سياسات تدعم الإنتاج الثقافي المحلي وتحد من التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، والاستثمار في البنية التحتية الثقافية مثل المكتبات، المتاحف، والمنصات الرقمية الثقافية.