روايةٌ واحدةٌ فقط

ثقافة 2024/05/29
...

باقر صاحب



هناك رؤيةٌ تقول بأنّ المبدعين من شعراء وساردين، لن يكتبوا سوى كتابٍ واحد، وأنَّ ما يكتبونه تالياً، ليس سوى تنويعاتٍ على الكتاب الأول، قد تكون تلك التنويعات فيها تفوّقٌ على الكتاب الأول، وقد تخرج منها كتبٌ، دون مستواه. ويعزّز هذه الرؤية بشكلٍ أو بآخر، أو تنبثق منها رؤيةٌ أخرى، بالقول بأنّه ليس الكم الغزير من يحدّد فرادة الكاتب وشهرته، بل ربما كتابٌ إبداعيٌّ واحد، يحصد من جرّائه كاتبه، الشهرة العالمية، عبر حصد الجوائز وتعدّد طبعات الكتاب، وتحويله إلى أفلام.
وفق هذا المنوال ورد عن الشاعر والكاتب اللبناني الراحل بسّام حجار( 1955 - 2009) في أحد الحوارات معه، بأنّه في خاتمة كتابه المعنون “ كتاب الرمل” عمد إلى ما يلي؛ “أفردتُ في نهايته في نوعٍ من اللعب المقصود معجماً لمفرداتي التي تتردّد في كلّ أعمالي لأكتشف أنّها لا تزيد عن (12) مفردة. أعتقد أنّ (12) مفردةً كافيةٌ لتسمية العالم وأشيائه. في مقتربٍ أولي، وبعد ذلك في إمكان هذه المفردات أن تتوالد إلى ما لا نهاية” ، ونظنُّ بأنّنا لا نذهب بعيداً في القول بأنَّ منبع كتب حجار الشعرية والنثرية، كتابه الأول” مشاغل رجل هادئ جداً”، بل أنه يؤكّد بشكلٍ أو بآخر، واحديّة الكتاب، حينما يستشهد حجّار بكاتبٍ فرنسي يحبُّه كثيراً، بأنّهُ كتب مؤلّفاته التي تربو على المئتين بعدَّةٍ لغويَّةٍ لا تتجاوز الثلاثمئة كلمة. وقبيل وفاته عمد دارسون جامعيون إلى وضع قاموسٍ خاصٍّ به، وتوصّلوا خلال عامين من البحث في كتبه من وضع هذا القاموس الذي يتضمّن خمسة عشر ألف مدخلٍ لغويٍّ جديد.

وإذا انطلقنا في رؤيتنا من شاعرٍ وناثرٍ متميّزٍ مثل بسّام حجار، له عديد الكتب شعراً ونثراً، فإنّنا نحاول استثمار هذه الرؤية في وجهها الآخر، في الذين يسمّون كتاب الرواية الواحدة، رجالاً ونساء، وبعضهم أحرزوا بها جوائز مرموقة، مع استمرارهم في الحياة وتوقفهم عن الكتابة، والبعض الآخر رحلوا عن الدنيا، لكن تلك الرواية الواحدة كتبت لهم الخلود.

ويمكن القول أيضاً، أنّهُ غالباً، ما يكون هناك عملٌ إبداعيٌّ واحد، يتميَّز به الكاتب ويشتهر به، حتى وإن تعدّدت أعماله. وهذا يعني أنه نادراً، ما تجد كاتباً يحقق تفوّقاً مطّرداً في أعماله كلّها، بل يتخللّها تذبذبٌ ما في المستوى، ومن ثمَّ يُشار بالبنان إلى عملٍ ما بعينه.

لا نستطيع أن نشير، في مقالتنا هذه، إلى كلِّ النماذج، التي نستشرف فيها، رؤيتنا بشأن الرواية الواحدة، ومنها تلك التي تميّز بها كتاب، حازوا جوائز فيها، مع تعدّد أعمالهم في أجناسٍ إبداعيّةٍ أخرى، ومنهم الكاتب البلغاري الأصل إلياس كانيتي، ويكتب باللغة الألمانية، الذي فاز بجائزة نوبل للأدب عام 1981 عن روايته الوحيدة” نار الله”، وتُرجمت إلى العربية، من قبل كاميران جوج عام 2003، وتتحدّث عن شخصية البروفيسور كين، “أعظم علماء الصينيات”، الذي يصف التواصل مع العالم لا لزوم له ما دام أنه توجد الكُتُب، لذا يعيش منعزلاً في بيته مع آلاف الكُتُب ولأجلها.

وهناك الرواية الوحيدة للكاتب والشاعر الروسي بوريس باسترناك” دكتور زيفاجو”، التي جعلته يحصد جائزة نوبل للآداب عام 1958 ، وتتحدّث عن الثورة الروسية 1917 ، ما أثار غضب المسؤولين السوفييت آنذاك، بعد نشرها في أميركا عام 1957، وأجبروه على رفض تسلّم الجائزة ، ومع ذلك كان يُعدُّ شاعراً مرموقاً، خاصّةً كتابه الشعري “شقيقتي”، الذي يُعتبر من نوادر الشعر في القرن العشرين.

مثلما هناك الشاعرة والكاتبة الأميركية سيلفيا بلاث، التي تميّزت بروايتها الوحيدة “الناقوس الزجاجي”، إذ نشرتها تحت اسمٍ مستعار، عام 1962 ، وفيها تتحدّث عن حياة امرأة، تكاد تكون موازيةً لحياتها، فسيرة بطلة الرواية تعكسها صورتان، إحداهما تبدو فيها طموحةً للغاية، وتأمل أن تحقّق لنفسها مكانةً مهمةً في الوسط الأدبي والأكاديمي. والأخرى ينقلها الراوي، وهي صورةٌ قلقةٌ وكئيبة. بلاث المتميّزة بالإبداع الشعري، إذ تُعدُّ مجموعتها” آرائيل” من أهمّ الأعمال الشعرية في القرن العشرين، زوجها الشاعر الانكليزي تيد هيوز ، الذي عاشت في كنفه سنواتٍ صعبةَ، وكئيبة، بسبب خياناته المتكرّرة لها، فانتحرت بعد شهرٍ واحدٍ من نشرها لروايتها الوحيدة، التي حصلت عام 1982 على جائزة “البوليتزر”. 

سنبحث، في المقاطع التالية، بشيءٍ من التفصيل، في بعض النماذج المختارة، لكتّاب وكاتبات، لم يكتبوا سوى روايةٍ واحدةٍ فعلاً، تفصيلٍ فيه مبرّراتٌ تميّز تلك الروايات وواحديّتها.

 خوان رولفو وروايته “بيدرو بارامو”

يٌعدُّ الروائي المكسيكي خوان رولفو (1917- 1986 ) من خلال روايته “بيدرو بارامو” الأب الروحي للواقعية السحرية، وملهم أدباء أميركا اللاتينية، وعلى رأسهم غابرييل غارسيا ماركيز.

 وتندرج هذه الرواية ضمن ما يُسمّى أدب الأب، فهي تروي قصّة رجل “خوان بريسيادو” يسافر إلى مدينة كومالا، إذ توصيه أمّهُ، بالبحث عن أبيه هناك، بعد أن تموت، حيث أنّ أباه سيسرُّ بلقائه، وحين يصل إلى كومالا، يجدها مدينة أشباحٍ حقيقية، أي أنّها مسكونةٌ بشخصياتٍ طيفية، بعد أن كانت مدينةً عامرةً بالبشر، وهم يعملون ويتمتّعون بالحياة. لن يعرف خوان المدينة على حقيقتها الاّ من خلال حكاياتٍ تُروى له من خلال نساءٍ، كنَّ على علاقات مع أبيه على مستوياتٍ مختلفة، منهن الزوجة والخادمة والعشيقة، هذا غير العدد الكبير من نساء، أقام معهن علاقات، وأنجب منهن أبناء، لن يستطيع التعرّف عليهم. فكانت مزدهرةً وقتما كان أبوه يتزعّمها، واصبحت مدينة أشباح بعد موته، كأنَّه هو والمدينة كلٌّ واحد، ما يعني امتلاكه النزعة التسلطية، ككلِّ الدكتاتوريين، الذي يعملون على ازدهار مدنهم، وحين يأتي انقضاء أجلهم، يتركونها خراباً. ويكتشف خوان أن سائق الشاحنة، الذي طلب منه ايصاله إلى كومالا، وهو بدوره حكى له عن أبيه، يكتشف أنّهُ أخوه ميغيل بارامو. الرواية تكشف لنا أنّ خوان يموت في منتصف الرواية، لرعبه من مدينة الأشباح، وتكمل حكاية الرواية متسوّلة المدينة دوروتيا، والأغرب من ذلك أنّ دوروتيا تحكي له قصة أبيه مع المدينة، وهي مجاورةٌ لقبره، فقد أصبحا من سكان مدينة الأشباح.

تمّت ترجمة الرواية إلى أكثر من 30 لغةً مختلفة، وبيع من النسخة الإنجليزية أكثر من مليون نسخةٍ في الولايات المتحدة. ويذكر أن غابرييل غارسيا ماركيز قال إن اكتشافه لرواية “بيدرو بارامو” في عام 1961 ، هو الذي فتح طريقه لكتابة “مائة عام من العزلة”، كما عد َّ أشهر كتاب أميركا اللاتينية خورخي لويس بورخيس رواية “بيدرو بارامو” أحد أعظم النصوص المكتوبة بأيِّ لغة.

جون كينيدي تول وروايته “ تحالف الأغبياء”

الرواية الوحيدة للكاتب الأميركي المنتحر جون كينيدي تول ( 1937-1969)، وعنوانها “ تحالف الأغبياء” انتحر بسببها، ذلك لأنّه عرضها على دور النشر، فرفضت نشرها. ومن بعد رحيله، بذلت والدته أقصى جهدها، في أن ينجح مسعاها في أن توافق إحدى الدور على نشرها، ونجحت في ذلك، فقد صدرت عام 1980 ، وفازت بجائزة “البولتزر: في عام 1981 ، وبذلك تخلّد ابنها وروايته اليتيمة بعد إثني عشر عاماً على رحيله .

أبرزت الرواية الفكاهة السوداء المنتقدة لنمط الحياة الاستهلاكي للمجتمع الاميركي، هذا النمط جعل رواياتٍ أقلّ شأناً بكثير من روايته تصدر، ويُباع منها عشرات آلاف النسخ، بينما روايته تُرفض لرؤيتها الانتقادية. ويمكن القول بأنّها سيرةٌ ذاتيّةٌ لكاتبها كينيدي تول، فبطلها أغناطيوس رايلي، دارس للأدب ومتعمّق فيه، دراسته تلك، جعلته يتعامل مع الواقع بسخريةٍ وقلَّةِ اكتراثٍ بل برفضٍ، مفضِّلاً الانسحاب منه، ولا يتواصل معه إلاّ وكان شعوره بأنَّهُ مُرغمٌ على ذلك.

 

مارغريت ميتشل وروايتها “ذهب مع الريح”

اشتهرتِ الكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل (1900 - 1949) بروايتها الوحيدة ( ذهب مع الريح)، وقبل أن تتفرغ لكتابة هذه الرواية التي أكملتها في عشر سنوات، عملت في الصحافة، من خلال الكتابة في صحيفة محلية في ولاية أتلانتا.

موضوعة الرواية تنطلق من أحداث الحرب الأهلية الأميركية ( 1861 - 1865)، التي أصغت لقصصٍ عنها في طفولتها، يرويها مشاركون فيها، من أفراد عائلتها. بعد اعتزالها الكتابة الصحفية، وملازمتها البيت إثر مرضٍ ألمَّ بها، كما ذُكر في سيرتها، انكبَّت تغوص في بطون الكتب، التي تناولت تلك الحرب، ومن ثمَّ وجدت نفسها، تستلهم قصص الحرب في كتابة روايتها الوحيدة، التي تتجلّى فيها ثنائية الحب والحرب، إذ أنَّ بطلة الرواية سكارليت أوهارا، كانت على علاقة حب، قبل بدء الحرب، مع آشلي ويلكس، لكن لم يُكتبْ لهما الزواج، بحجَّة عدم وجود مشتركاتٍ بينهما، كما يزعم ويلكس، ويختار أخرى، يعتقد أنّه سينسجم معها، وهي ابنة عم سكارليت واسمها ميلاني، بطلة الرواية سكارليت، بدورها، تتزوّج ابن عمها تشارلي، وهو شقيق ميلاني. ونلاحظ هنا أنّنا أمام قصص حبٍ معقّدة، لكن الأمور تتعقّد أكثر، حين تندلع الحرب، ويشترك فيها العاشق السابق ويلكس، والزوج تشارلي، الأول يقع في الأسر، والثاني يُقتل. تتزوّج بطلة الرواية من رجلٍ آخر، ولما يمض زمنٌ على ذلك. يُطلق سراح العشيق السابق ويلكس من الأسر، ويعود إلى عائلته، فتعاني بطلة الرواية من تعقيدات وضعها الاجتماعي، بوجود زوجٍ جديد، وعودة عشيقٍ لها من الأسر. إنها قصص الحرب ومآسيها، تتجدّد في كلِّ مكانٍ وزمان. صدرت الرواية عام 1936 ، ولأهمية موضوعة الرواية وسخونة أحداثها، فازت الرواية بجائزة “البولتزر” عام 1937. نجاح الرواية وشهرتها جعل العروض تنهال على ميتشل لكتابة جزءٍ ثان، لكنّها رفضت ذلك، مقتنعةً بأنّها قالت كلّ ما تريد قوله، بل أنّها توقّفت عن الكتابة، عند نشوب الحرب العالمية الثانية 1939- 1944، وتطوّعت في الذهاب إلى فرنسا، للمشاركة في إيصال المواد الغذائية والطبية إلى المواقع الخلفية لجبهات القتال هناك. إذا كانت مارغريت ميتشل اقتنعت بأنّها كتبتْ كل ما تريد أن تكتبه في روايةٍ ناجحة، بدليل، أنّها حصدت جائزةً عالميةً مثل “البوليتزر”.

إميلي برونتي وروايتها “مرتفعات وزذرنج”

لم تعشِ الروائية الانكليزية إميلي برونتي كثيراً ( 1818 - 1848 )، فقد ماتت نتيجة إصابتها بالسل، بعد نشر روايتها الوحيدة” مرتفعات وذرنج” بعامٍ واحد. نشرتها باسم مستعار “ايليس بيل”، وبعد رحيلها بادرت أختها شارلوت برنتي، صاحبة الرواية الشهيرة “جين إير” إلى نشر طبعةٍ ثانيةٍ باسم اختها الصريح. عُدَّت رواية “مرتفعات وذرنغ” من كلاسيكيات الادب الانكليزي، وتمّ تحويلها إلى فيلم عدّة مرّات.

تجري أحداثها في منطقةٍ تسمى مرتفعات وذرنج، حيث يتبنّى مالك مزرعة هناك يدعى ايرنشو، الطفل المتشرّد هيثكليف، فيترعرع مع الابنة كاثي التي سرعان ما مالت إليه، ومع الابن هندلي الذي يمقته ويحتقره. وبعد وفاة إيرنشو، أصبح محيطه العائلي ملغوماً بالعداء له، حيث يًعامل كعبد، لكن َّروحه ظلَّت عصيّةً على الخضوع، فقط حبُّه لكاثي، يجعله صبوراً على الانفجار ضدّ وضعه في العائلة، هندلي يبعد كاثي عنه، فلا تجد مفراً من الالتقاء سراً في منطقة المستنقعات المهجورة، وهو الأمر الذي يعارض القيم والتقاليد في بيئتها المحافظة، وحدث ما كانت تخشاه، إذ انكشف أمرهما، وطُرد هيثكليف من البيت، وتمَّ تزويجها من الجار الثري إدجار، وفي دخيلة نفسها، كانت ترغب أن تعيش حياة الترف، بعيداً عن المنغّصات التي تسبّبها علاقتها السرية مع هيثكليف، الذي عدَّ هذا الأمر خيانةً له، وأنّه سينتقم في الوقت المناسب. بعد أن اختفى ثلاث سنوات، عاد لينتقم، فقرر الزواج من إيزابيلا شقيقة إدجار، لكي ينتقم من الخائنة كاثي، ومن الغريم إدجار، لكنَّ كاثي تموت بعد أن أنجبت طفلة، وحين تكبر تتزوّج ابن هيثكليف، الذي يموت مبكّراً، فتتزوّج لاحقاً ابن هندلي. وهنا توضّح الرواية لعبة تلاعب الكبار بمصائر الأبناء، في خضمّ صراعهم الأزلي من أجل حصد مكاسب الجاه والمال. إنّها رواية تراجيدية، ذات حبكةٍ معقَّدة، حيث إنَّ الانتقام يلقي بظلاله على الحب، فتبدو الرواية خير ممثّلٍ على النوازع المتصارعة في النفس الإنسانية، الحب مقابل الكراهية، والخير مقابل الشر.