عندما أصبح النظام هويَّة مصر
يقظان التقي
يتحرى كتاب "مصر الثقافة والهوية" للدكتور خالد زيادة عن تلك العلاقة التي بين النسقين الثقافي والسياسي والقيود، والفرصة المتبادلة في لحظة من أوضاع متغايرة جدا، تعكس حجما غير مسبوق من التحديات والصراعات والأزمات الداخلية في المنطقة والعالم، وفي مساهمة بحثية تقدم رؤية مهمة للدولة والوطنية في المنطقة العربية.
أهمية الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تكمن أولا في منهجية بحثية دأب عليها زيادة تجمع ما بين عمل المؤرخ الأكاديمي/ الباحث والروائي السلس والعذب، وفي تحليل مضمون استطلاعي ومقارن بين الأمس واليوم، في ما يحتويه من مقاربة أهم المراحل والتحولات والمتغيرات التي شهدتها مصر، وهو جزء من التجريب الخلاق الذي يمارسه المؤلف في مسرحة الأحداث واستنطاقها، من خلال الوقوف على مجموعة كبيرة من التحولات البنيوية، والتي نقلت مصر من حال إلى حال على مستوى بناء الدولة ومؤسساتها الحديثة، على مستويات سياسية واجتماعية، وعلى مستوى بنى الإنتاج والإدارة والبيروقراطية، والأهم على مستوى الثقافة التي شهدت تطورات مهمة في بناء الدولة الحديثة وتقديم الرؤى بحرية، ربطها بالفكر التربوي كمرجعية مركزية في تعزيز فكرة الدولة وعبر الأفكار الرائدة كنموذج أرفع للثقافة، "مستقبل الثقافة المصرية " طه حسين، وحيث ان للمثقف دورا في تقديم تلك الرؤى "مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد". وهذا الكتاب وضع في خانة الفكر التربوي، كأساس نهضوي في انهيار النظام القديم العثماني في مصر. هو عودة أبعد من نوستالجية إلى أحوال مصر التي قدمت أشياء تقدمية شكلت ارهاصات نموذجية في الاصلاح التربوي وملخصات لأفكار كانت صدرت في الغرب "العقاد"، دخلت إلى مصر والمنطقة كمقدمات تربوية. لكنها تعنى بمساحة الحريات العامة والديمقراطية بأسلوب الارشاد التربوي.
الدولة الحديثة لعب فيها المثقف في القرن التاسع عشر بين القاهرة وبيروت دورًا بارزًا بوصفه التقني الذي اكتسب بعضا من ثقافة الغرب ليحتل وظائف في الدولة قبل أن ينتقل إلى المراحل الأخرى، وهذه الأدوار لم يكن باستطاعة العالم التقليدي تأديتها، التي كانت تقتصر على سبيل المثال بالديواني أو المحاسب الذي يحصي الضرائب، والانتقال إلى مرحلة البعثات إلى الدول الأوروبية، ليكتسبوا التقنيات الجديدة على مستوى الإدارة، والفصل في الأدوار بين هذه المؤسسات، وبالمقارنة مع محيطها العربي والأفريقي.
يرصد خالد زيادة في هذا الكتاب علاقة وتطور السياسة بدور المثقف، وعلاقة المثقف بالسلطة، مساهمته في بناء الدولة وبلورة الفكرة الوطنية، والنهوض بدور اقليمي من خلال ثلاث مراحل: الأولى مرحلة الإصلاح أو النهضة، والتي تعرف أيضًا بمرحلة التنظيمات، الانتقال من الدولة الايوبية إلى الدولة المملوكية "عز الدين عبد السلام مرجعا للقادة السلاطين"، والفترة العثمانية التي شهدت تراجعا بشأن العلماء، والمرحلة الثانية هي التي شهدت السعي إلى الاستقلال وبروز الوطنيات وهيمنة الأفكار الليبرالية، مرورا بالاضطراب الذي أحدثه الانتداب الفرنسي وهروب أمراء المماليك، "محمد علي سلب المثقفين دورهم وألزمهم في التدريس". أما المرحلة الثالثة فهي التي استتبت فيها الأنظمة الوطنية من طريق النضال ضد الاستعمار أو من طريق الثورات والانقلابات.
واللافت أن دور المثقف كان مرتبطا بالدولة لناحية البناء على مستوى المؤسسات "رفاعة الطهطاوي"، حيث المثقف يدين بوجوده إلى مشروع الدولة الحديثة، ورسمت وظائفه بالعلاقة معها معارضا أو مواليا، كاتبا أو جامعيا.
يرصد زيادة التطورات السياسية في مصر بالتوازي مع تطور دور المثقف منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى السنوات الأخيرة، من يؤثر على من، السياسي على المثقف، أم المثقف على السياسي؟
بدأ مشروع التحديث من خلال نظرة العلماء إلى الآخر، وهو ما أظهره خالد زيادة عندما أبدى عبد الرحمن الجبرتي إعجابه ولكن بحذر في ما يخص علوم الفرنسيين وفي إعطاء العمال أجورهم، وطرائقهم في اجراءات العدالة (للجبرتي مؤلفًا يتعلق بالحملة الفرنسية على مصر وكيفية تأثير ذلك بالنظرة إلى الغرب والتحديث، والآخذ بعلوم أوروبا وتقنياتها). كان المثقف بحاجة إلى إدارة حاكمة، ويضع الجبرتي شخصية محمد علي على اتجاهين تارة يصفه بالغدر، إلا أنه في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" يقر في نهاية الأمر بإنجازاته.
أهم ما عمل عليه محمد علي باشا هو تحديث الجيش، كما أنه أوفد بعثة طلابية إلى فرنسا وعلى رأسها رفاعة رافع الطهطاوي، وبعد عودته سنة 1831 كتب الكتاب الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" يصف فيه الثورة على شارل العاشر، وترجمته للدستور الفرنسي، ليقلّده محمد علي منصبًا مرموقًا وهو الإشراف على قلم الترجمة.
يشير الكاتب إلى الفكرة الشائعة عن محمد علي وانتزاع نفوذ العلماء وصلاحياتهم، وقد استفاد من تنافر العلماء وحقدهم على نقيب الأشراف عمر مكرم الذي كان بمنزلة الزعيم الأهلي، لينفيه في عام 1809، ويعيّن مكانه الشيخ الشرقاوي نقيبًا للأشراف، وهو بهذا أراد أن يطبّق النظام العثماني حيث أن المؤسسة الدينية هي مؤسسة تعليمية يترأسها شيخ الإسلام، وهي تمد الدولة بالأئمة والمدرسين والقضاة وقد طلب محمد علي من شيخ الأزهر محمد العروسي أن يوعز إلى الشيخ خليل الرجبي بتأليف كتاب يتضمن فصلًا في شرعية النظام الجديد.
شهدت هذه الفترة تضخمًا في الجهاز البيروقراطي، والتي سوف تؤدي إلى جعل الأفراد موضوعات قابلة للقياس، انطلاقًا من بناء الجيش الذي أدى إلى بناء إدارة تحديثية عمل على علاقات جديدة بين الفرد المصري والدولة من جهة أخرى. تجربة مصر تعتبر نموذجا متقدما في محيطها من خلال مرحلة القضاء على بنى السلطة التقليدية وبناء ممؤسسات الادارة والحكم (جيش، قانون ملكية الأرض، بنية التعليم الحديث، السدّ العالي). أدت عمليات التحديث التي شهدتها مصر إلى ولادة الفكرة الوطنية، انطلاقًا من الحاجات الجديدة التي طرأت على المجتمع المصري، ففي ستينيات القرن التاسع عشر تبلورت طبقة من الملّاك، غير مصرية، مثل "مجلس النظار" الذي ترأسه شريف باشا، وهو تركي الأصل، وقد أسّس "مجلس النواب" وعُرف بـ "أبي الدستور المصري". أما محمود سامي البارودي فقد كان من أصول شركسية، وهو الشخصية الإدارية التي تولت نظارة الحربية إثر "ثورة عرابي"، وكان يُعد من أوائل شعراء الفصحى والعربية المحدثة.
كانت فكرة التربية هي المفتاح الذي دشنه الطهطاوي سبيلًا للتمدين والتقدم، من خلال مؤلفه "المرشد الأمين"، وهو الكتاب الذي تأثر به الجيل اللاحق من المثقفين، مثل لطفي السيد، قاسم أمين، سلامة موسى، عباس محمود العقاد، طه حسين، بالإضافة إلى تبلور الأحزاب كـ"حزب مصر الفتاة" عام 1878 مع أديب إسحق، والحزب الوطني مع مصطفى كامل ذي الأصول الشركسية، وقد أنشأ كامل "جريدة اللواء" التي كانت تعبّر عن البعد الوطني بتأكيد الاستقلال وهو صاحب الجملة الشهيرة (لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا)، و"حزب الأمة" مع أحمد لطفي السيد وهو الذي كان كاتبًا ومترجمًا ومن أهم ترجماته كتاب "السياسة" لأرسطو.
يحوي الكتاب تسعة فصول، تركز على أبرز التحولات والمتغيرات التي حدثت، وكجزء من التجريب الثقافي والسياسي بين السلاطين والمدن والتجار والجيوش.
يروي الجبرتي فصلا عن "الاضطراب الذي طرأ على مصر مع دخول الفرنسيين وتقدمهم نحو القاهرة على حساب المماليك، وقائع انهار معها نصاب الحياة اليومية ومعاشها، ومن تشرذم وانقسام طائفي. ويرسم صورة كاملة عن دولة محمد علي (تاجر تبغ كما هو شائع)، الدولة الحديثة، بناء الجيش، القضاء، وعن سلطة محمد علي التي امتدت إلى البحر الأحمر للحصول على موارد تجارية مع الصين ومعه الهند، وأهمية ذلك في مصائر مصر وبلاد الشام بعد تجنيد المصريين "أولاد العرب" على مستوى الجنود، وتركيا على مستوى القيادة، الثقافة السائدة في العقدين الأولين من القرن التاسع عشر في دراسة موسعة اثربولوجية – اجتماعية فتحمل شعاراتها الاصلاحية التحديثية.
ويفرد الكتاب فصلا مهما لعهد الخديوي اسماعيل ( 1863-1879) واقفاله الأبواب أمام الفرنسيين، وعصر التنظيمات الذي هو عصر الدساتير وبروز جماعة الراي والفنون والصحافة ولادة السياسة، ودور مهم للادارة في هامش من الاستقلالية، وتوسع نطاق التعليم الأهلي والارسالي وتأصيل مفهوم المنافع التربوية فيما بعد (الطهطاوي)، وفهم جديد للشريعة التغييرية وتطور اللغة، إلى اخبار الحرية والاشتراكية (سلامة موسى). من الصعب الاحاطة بمقالة ببورتيرات وقصص عباس محمود العقاد (نموذج لعلاقة المثقف والسياسة في ثورة 1919)، طه حسين ورائعته (الأدب الجاهلي)، ومعارضته لحزب الوفد وسعد زغلول (افتراق منطق المثقف عن منطق السياسي)، علي عبد الرزاق (الخلائفة ليست من أصول الإسلام)، حزب الاحرار والملاكين الارستقراطيين، التأثر المتبادل بين اليونان ومصر، محمد صبري (نشأة الروح المصرية)، عبد الرحمن الاذن (ذكر الاحداث وتدعميها بالوثائق وكتابه تكوين مصر)، محمد حسنين هيكل (رواية زينب)، أحمد لطفي السيد يعقوب صروف وسلامة موسى وشبلي الشميل (دور الصحافة) والعلاقة التبادلية الثنائية الممتازة بين القاهرة وبيروت، راشد البراوي (حقيقة الانقلاب في مصر)، إلى فصل كامل عن الرواية المصرية في الربط بين عالم الاجتماع والانثروبولوجيا والوصف والتحليل الاستطلاعي، قليل من الحب كثير من العنف (فتحي غانم)، حب فوق الهضبة (نجيب محفوظ)، رسالة البصائر (جمال الغيطاني)، تحريك القلب (عبده حبيب).
صورة مخيفة في الفصل الخامس لا أدري اذا تعمد فيها خالد زيادة الاطلالة على الحاضر في افول الحقبة الليبرالية، انقسام ثقافي وطبقي، بين الريف والمدينة، التطورات الاقليمية في اوروبا، الجماعات المناهضة لليبرالية، جماعة الاخوان المسلمين التي أسسها حسن النا عام 1928، (خاتمة التحرر الليبرالية عفاف لطفي السيد)، وانهيار السردية الكبلاى، سؤال الهوية والاقتصاد والديمقراطية ومصادرة الحياة السياسية (جلال أمين).
خلاصة حزينة ينتهي اليها زيادة، ما عاد للمثقف دور مهم في صوغ هوية مصر الحضارية، وما عاد للثقافة العربية والاسلامية أم غير ذلك أثر في تحديد هذه الهوية، وانما أصبح النظام نفسه هو هوية مصر.