علي كاظم داود
لعل أكثر ما يلفت الانتباه في الشعر الحقيقي، والنماذج الشعرية المتفق على فرادتها ورفعتها، هي قدرة هذا الفن اللغوي على الإتيان بما لا يمكن قوله في كلام الناس العاديين، بوصفه عنفًا منظمًا على اللغة العادية، كما يعرف رومان جاكوبسون الأدب، أي قدرته على تحدي المستحيلات اللغوية، وابتكار مستويات تعبيرية جديدة، وأنماط خارقة من التفكير باللغة. ومن أجل ذلك يمكن أن يوصف الشعر بأنه فوق كلام البشر، قد ينسبه بعضهم إلى الإلهام الذي يأتي إلى الشاعر في لحظاتِ تجلٍّ خاصة، أو إلى شياطين، أو ربما إلى ملائكة مطرودين، يبوحون للشعراء قصائدهم، وينطقون بها على ألسنتهم.
ثمة جوانب كثيرة يمكن أن تصنف الشعر بوصفه حالة روحانية غير قابلة للتفسير على نحو كامل، كما يمكن أن يلعب الشعر دورًا رساليًا في تعزيز التواصل الإنساني والتلاحم الاجتماعي، وربما يمكن للشعر الكشف عن أبعاد عميقة في الذات الإنسانية وفلسفة الوجود والسعي الدؤوب والأزلي نحو السعادة والكمال والخلود.
أول الإشارات التاريخية التقديسية للشعر العربي هي تلك التي حددت عدد المعلقات بسبع قصائد، ومن الواضح أن الرقم سبعة يرتبط بأفكار مقدسة وموروثات ميثيولوجية في التاريخ العربي والإنساني. وهذا العدد المقدس ارتبط بالمكان المقدس أيضًا، وهو الكعبة المشرفة، بوصفها موضع تعليق تلك القصائد، التي سميت كذلك بالمذهبات والسبعيات والسموط، وغيرها من الأسماء، لتوسيع هالة الأهمية التي تحيط بها. وقد قيل عن فعل التعليق بذاته بأنه فعل مقدس، يمثل "طقسًا دينيًا منحدرًا إلى الأجيال الجاهلية المتأخرة عن أعراف دينية عريقة"، بحسب كتاب المعلقات سيرة وتاريخًا. الأمر الآخر الذي يمكن الإشارة إلى قداسته لدى العرب هو الشعر ذاته؛ لأنهم كانوا يرون فيه وحيًا وإلهامًا، لا يمكن لأي فرد قوله، فالشعراء هم أنبياء العصر الجاهلي، والشعر هو كلامهم الذي يفوق كلام البشر، حتى كانوا إذا نبغ فيهم شاعرٌ تباشروا واحتفلوا به، كأنه نبي مرسل إليهم خاصة.
من أجل ذلك يمكن تعريف الشعر من جديد بأنه: كلامٌ مُقدّس، موزون مُقفى، يدل على معنى. فالوزن والقافية هما الفاصل بين الشعر، وهو كلام البشر المقدس، وبين القرآن الكريم، كلام الوحي المُنزل من السماء. فالمعلقات السبع تضارع السبع المثاني في التسمية، وفي حكم القيمة، وكلاهما أعلى منزلةً من كلام البشر العاديين. وقد جاء القرآن الكريم معجزةً بلاغيةً بتفوقه على الشعر الجاهلي عمومًا، والقصائد المعلقات بالخصوص. يمكن التماس السمة القدسية للشعر في بعض المسالك الدينية والثقافات التي تتخذ إطارًا دينيًا، فربما يكتسب الشعر الصوفي الإسلامي سمة القداسة، لارتباطه بطرائق خاصة في العبادات أو الممارسات الروحانية، إذ يُنظر للشعر لدى المتصوفة على أنه وسيلة للوصول إلى مستويات ومراتب أعلى في صفاء النفس والتأمل الفكري والتجلي الروحاني. كما يمكن أن يكون الشعر في بعض الثقافات الأخرى أحد أشكال التعبير عن الإيمان، وتقديس الجمال، والهداية الخاصة التي تصطنعها في النفس قوى أو كائنات غيبية. الشعراء، بحسب فريدريش هولدرلين، هم "كهان لباخوس العظيم"، فلهم سدانة طقوس النشوة والبهجة واللهو في هذه الحياة. وكلامهم حمّال ذو وجوه، يستدعي التأويل، ككلام الآلهة، كما نفهم من قول الفرزدق: "علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا". والشعراء الذين يتبعهم الغاوون، في القرآن الكريم، هم أنبياء الفرقة الهالكة، والزمرة الضالة، ولكنهم أنبياء على أية حال!
يتشارك الشعراء مع الآلهة في صفة الخلق، إذ يُنشئ الشعراء الجمال من غير شيء كان قبله، يصنعون مادةً مبتكرةً من العدم، فعندما نطالع قصيدة جديدة، أو نسمعها من فم الشاعر، نُفكّر، مثلما فعل جيمس وود: لم يكن ثمة شيء قبل وجود هذه القصيدة، "شخص ما خلقها من هواء أخف من الخفّة"، وهو ما يُشعرنا أن لهذا الكائن اللغوي المخلوق من العدم طابعًا مقدسًا، يُميزه عن بقية المخلوقات الأخرى.