مآلات الترميز في فنتازية الذئب
عبد علي حسن
إذا كانت الأيقونة تفترض المطابقة بين الدال والمدلول، وإذا كانت الشفرة تفترض البحث عن المدلول الغائب والمؤجل فإن الرمز علامة تتمثّلُ معنى له وجود قائمٌ بذاته وتحلُّ محله وتدل عليه، وهو عادة ما يُقصدُ به الإيجاز، ولأهمية الرموز في صياغة وبناء المنجز الأدبي فقد ظهرت الرمزية بعدّها "مذهب في الفن والأدب يعتمد الايحاء والتلميح برموزه المنبثقة من الصور الحسية والأساطير، ويترك القارئ مجالاً للتصور والخيال لإكمال الدلالات الرمزية كما توحي بها.. المعجم الوسيط" وعلى وفق المدلول السيمائي الٱنف الذكر للرمز بعدّه نوع من العلامات التي اهتمت بها السيميائية سنذهب إلى تقديم مقاربة تكشف عن منظومة الرموز والتشابك الترميزي في قصة (الذئب) المنشورة في صفحة ثقافية جريدة (الصباح) في العدد... ليوم الثلاثاء 14/ 5/ 2024 من مجموعة "في أطراف القرى" القصصية للقاصة شهد الزبيدي الفائزة بالجائزة الأولى للقصة القصيرة في المسابقة التي أقامها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق القصاصين الشباب.
لقد تهيكلت قصة (الذئب) على ثنائية الآكل والمأكول في بعدها المادي والطبيعي، لذلك فإن شخصيات القصة (الخروف) الشخصية المركزية ثم الذئب ثم الإنسان قد حازت على منظومة رمزية تحيل إلى مدلولات معنوية تسحب المعنى السطحي المكتسب من الواقع المادي إلى معنى مفارق يتّسم بالمفاهيم الجوانية للعلاقة الضدية بين الحيوات التي تمثّل تلك الثنائية، ولتشكّل متوالية التحول من جنس إلى جنس ظاهرة هي من مخرجات الواقع المأزوم الذي يشهد صراعات وحيازات ومصالح متضادة اختبأت خلف المنظومة الترميزية لمجريات السرد القصصي الذي كرّس هذه الظاهرة في بعدها الإنساني الشمولي، ولم يكن عنوان القصة (الذئب) إلّا علامة ترميزية للحل الذي توصلت إليه القصة في تمثّل الصراع بين أطراف ثنائية الآكل والمأكول ليكون المدلول النهائي والمتسيّد لعملية الصراع والتحول المتراتب للأجناس المتضادة ليحتفظ الذئب بمدلوله الذي يعرف عنه بخواصّه الحيوانية المتوحشة والمتعطّش دوما للإفتراس، فلم يقتصر الترميز على خلق الشخصيات الممتلكة لمدلولها المعنوي وانما ذهبت القصة إلى توسيع المنظومة الترميزية إلى مناطق حفّت بتفاصيل الشخصيات الرئيسية أسهمت العلامات اللغوية في تشكيلها ، ففي بداية القصة استكشاف لحالة (الخروف) الخارج عن القطيع بأفكاره التي يشذّ بها عن بقية الخرفان، فهو دائم الانتقاد للوضع المزري الذي يعيشه مما يدفعه إلى تقمص حالة البشر كأن يمشي على طرفين فقط دون الاربعة مما أثار خرفان القطيع الذين وصفوا أفكاره بأنها قريبة من أفكار البشر، مما أثار استهجانه لهذا التوصيف ووصفه بالإهانة، إلّا أن هذا التوصيف يتقاطع ورغبته في تمثل أوضاع البشر، وبتأثير من موضوع المتحولين الذي دأبت السينما على تكريسه في افلام عديدة، خاصة التحول من الإنسان إلى الذئب، فإن النص يذهب إلى الكشف عن احساس الخروف بأن هنالك في احشائه ذئبا ينمو ويأكل بطانة معدته، وبعد مراجعات عديدة للأطباء الذين أنكروا عليه وجود ذئب في بطنه، وعند زيارته لآخر طبيب يكشف فيه عن شعوره بالعظمة وهو يسير بين الناس معتقداً بأنه الأفضل والجدير بازدرائهم جميعاً وبأن لديه رغبة جامحة ليأكل من حوله ليحافظ على تلك العظمة والكبرياء الموهوم، عندئذ أخبره الطبيب بأن ليس هنالك ذئب حقيقي في داخله وهي (مشاعر بشرية بحتة) ومرة أخرى يتقاطع هذا الوضع مع تأكيد النص وعلى لسان الطبيب (لكن الصورة الانقى للبشر هم الذئاب، لذلك السبب ما كان في جوفك ذئب، لقد تحولت إلى الصورة المشوهة والتي يخالطها الضعف، تحولت بشراً) ويفهم من ذلك أن الخروف بأفكاره المتعالية وشعوره بالعظمة والتفوق على أقرانه إنما هي مشاعر بشرية تنزع للانتقام والوحشية والافتراس متخذة من الذئب صفاته الطبيعية المعروفة، إلّا أننا نلاحظ ارتباكاً في تخليق بنية التحول من خروف إلى إنسان ثم إلى ذئب، إذ أن الخروف في حديث سابق مع الطبيب يكشف عن بعض التحولات الجسدية التي رافقت الاحساس بوجود ذئب في بطنه (اظن بأنني اتحول إلى ذئب، إذ أن شعري صار اسود وعيني أوسع وأعمق لوناً ، أنا في حقيقة الأمر ولدت لأكون ذئباً) وبما أن النص يحاول توكيد حقيقة ما يعتري الإنسان من حالات يشعر فيها بالتفوق والعظمة وحب الافتراس كما في طبيعة الذئب الحيوانية، فإن الأجدى الاهتمام بتخليق بنية تحول الخروف إلى انسان ثم إلى ذئب بفعل دوافع الرغبة بالتوحش.
لقد امتلك النص لغة سردية متقدمة ذات إيحاءات ترميزية في العديد من مفاصل السرد، فضلاً تشكّل الصور السردية المنزاحة عن الاستهلاك الاعتيادي للغة، وكل ذلك أفلح في تقديم وجهة نظر امتلكت خطاباً شمولياً يعد واحدا من مخرجات المجتمع المتهالك على نفسه والذي تسود فيه مفاهيم التوحش والازدراء الذي يكون تربة خصبة لنمو مظاهر الاستلاب واللا إنسانية.
أما على مستوى اسلوبية السرد فقد عمدت القاصة الزبيدي إلى تخليق بنية العجائبية في بناء الشخصية المحور (الخروف) وتخويله سرد الوقائع بعده راوٍ كلي العلم، فهو يتكلم ويتصرف كالإنسان وهذا ما يتقاطع والمنطق الذي يتردد في تصديق ما يجري الخروف كلاماً وتصرفاً، فالفنتازيا التي لجأ إليها النص أسلوبا سردياً كان القوة الدافعة وراء استبطان الواقع.
وبمعنى آخر فقد كان النص الفنتازي هو النص الموازي لظواهر الواقع، وبالإمكان عد هذه الفنتازية ارتكاباً مضادا للمضمون العقلي المثالي للظواهر، فهي كسر لهيمنة العلاقات الممكنة بين الأمور المعقولة، وإزاء هذا التردد في تصديق ما يحصل في النص من أمور تتنافى والمنطق العقلي فإن المتلقي سيذهب من أجل إدراك ما يحصل إلى تأويل الرموز التي بثّها النص عبر تخليق معادلات للمقارنة بين تلك الرموز ومآلاتها للتوصل إلى مدلولاتها التي ستعينه على اكتشاف ما استبطنه النص من ظواهر الواقع، وعبر هذا الوضع الفنتازي فقد تمكن النص من تقديم رؤية كونية أو خطاب شمولي لما يؤول إليه الإنسان في تشويه العلاقات بين البشر بدافع التسلط والانتهاك للحق الإنساني الذي تمثّل في التحولات المتوالية للخروف الذي ٱل إليه الأمر ليتحول إلى انسان ذو طبيعة ذئبية وحشية ستسود علاقته بالإنسان الٱخر، على أننا نصطدم مرة أخرى بطبيعة تحول الخروف إلى انسان، فليس لهذا التحول من مبرر، وكان بالإمكان الاعتناء بوضع تحول الإنسان إلى ذئب مع الحفاظ على الأسلوب الفنتازي وتقديم ما يبرر هذا التحول عبر استثمار ظاهرة الصراع داخل المجتمعات المتهالكة على نفسها وظهور عوامل الإقصاء والتسلط والانتهاك بين البشر الذين سينقسمون إلى قسمين يشكلان ثنائية الآكل والمأكول، على أن ما يحسب لقصة الذئب هو نجاحه في تقديم رؤية شمولية مستخلصة من حراك ظواهر الواقع التي شاءت القصة أن تقدمه بأسلوب عجائبي يلفت نظر المتلقي، فضلاً عن ابتعادها عن الأسلوب الواقعي المباشر والمستهلك، وبالإمكان ملاحظتنا بشأن الخطاب الشمولي/ الإنساني أن تنسحب على جميع قصص المجموعة.