ينفرد الأدباء العراقيون بأنهم ينظرون أنَّ لا علاقة لعلم النفس بالأدب، ويعدّون تدخله في نتاجهم الأدبي (رواية، شعر، قصة...) فضولاً، بل إنَّ بينهم من يضع علم النفس في آخر قائمة العلوم غير المهمة، وبينهم من لا يزال يضعه في صنف الروحانيات.
ولهم نقول، إنَّ تصنيف اليونسكو للعلوم وضع (علم النفس) ضمن العلوم العشرة الأولى من حيث الأهميَّة والصعوبة، ووصفته بأنه العلم الذي يهدف الى وصف السلوك الإنساني الملاحظ والخفي، وتفسيره، والتنبؤ به، ودراسة وتحليل العمليَّة العقليَّة بكل مجالاتها المعرفيَّة: (حس، انتباه، إدراك، ذاكرة، تخيل، تفكير، ترميز المعلومات.. وحتى طبيعة اللغة)، وأنَّ أحد أهم أهدافه الإنسانيَّة أنْ يمنحَ الإنسان القدرة على التعامل الإيجابي مع الضغوط النفسيَّة ويشيع فيه الشعور بالتفاؤل. هذا عن علم النفس.. وماذا عن الأدب؟
الأدب بكل فنونه، يتحدث عن الإنسان: مشاعره: حب، كراهيَّة، حزن، فرح، سعادة، ّهمّ وغمّ، علاقته بذاته وبالآخرين، اغترابه عن نفسه، عن المجتمع، عن الحياة، وإنَّ أحد أهم أهدافه الإنسانيَّة هو أنْ يمنح الإنسان المتعة والتقاط العبرة ويشيع فيه دافع التعلق بالحياة.
هذا يعني أننا (علماء النفس) وأنتم.. أبناء عمومة لكنَّ واقع الحال أنَّ أدباء العراق في (خصومة) أو عدم إدراك لدور علماء النفس في الأدب.
وللروائيين تحديداً نسأل:
من منكم قرأ عن علم نفس اسمه (علم النفس السردي Narrative Psychology)! مع ان هذا الكتاب صدر عام 1986 لكاتب أميركي هو ثيودور آر. ساربين ، اهتم بسايكولوجيا الروايات والقصص، أوضح فيه أنَّ كلمة (سرد) تستعمل للتعبير عن تجارب الحياة بطريقة هادفة وممتعة، وأن السلوك البشري يمكن تفسيره بشكل أفضل من خلال القصص، والروايات، والشعر.
بل أننا نذهب الى أبعد مما ذهب إليه (ساربين) فنقول إنَّ السرديَّة لعبة أو فن أو مهارة سايكولوجيَّة، يلعبها الروائي مع المتلقي، يتلاعب بصوره الذهنيَّة، يبدؤها عن عمدٍ بأنْ يخلقَ عنده الشعور بالغموض والتوتر والفضول في معرفة ما سيقع وكيف ستنتهي الأحداث، وكيف تفعل صفات وانفعالات الشخصيات الرئيسيَّة فيه، وكيف يضمن ديمومة القارئ الى النهاية في حالة توحّد سايكولوجي مع شخصيَّة البطل، حتى لو كان هذا البطل قاتلاً.
كل هذه المهارة، هي في حقيقتها سايكولوجيا ذكيَّة، والروائي الناجح هو الذي يكون قد قرأ أو فهم علم النفس السردي وعلم نفس آخر مهم هو تحليل الشخصيَّة، أوْ يكون قد علمته له حياته الشخصيَّة كما علمت دوستويفسكي.
بالمناسبة، كان الفضل لدوستويفسكي في اختياري تخصص علم النفس بعد أنْ قرأت روايته (الجريمة والعقاب، وشخصيَّة بطلها راسكلينكوف الذي يصاب بالذعر والهذيان والكوابيس..) مع أنَّه روائي وليس عالم نفس، بل أنَّ فرويد نفسه يعترف بأنَّ “دوستويفسكي معلمٌ كبيرٌ في علمِ النفس لا أكادُ أنتهي من بحثٍ في مجالِ النفسِ الإنسانيَّة، حتى أجدَ دوستويفسكي قد تناولَه قبلي في مؤلَّفاتِه»؛ ما يعني أنكم، الروائيون بشكلٍ خاصٍ، سايكولوجيون وأنتم لا تدرون، ومع ذلك لا أظن بينكم من قرأ فرويد عن قصد في تحليله للأدب، ولا أظن بينكم من اقتنى كتابنا (فرويد) في تحليله النفسي للأدب بكل فنونه مع أنه نفد في معرض الكتاب بمسقط.
ليس هذا فقط بل أنَّ هناك فرعاً في علم النفس اسمه علم نفس الشخصيَّة، يتخصص بتحليل شخصة الإنسان، مشاعره، دوافعه، انفعالاته، علاقته بنفسه وبالآخرين.. وهي الحالة التي تعيشونها حين تكتبون رواية أو قصة، ما يعني أنَّ علماء النفس والأدباء أبناء عمومة يشربون من بئر واحدة، وأنَّ علينا أنْ نسهمَ معاً في مهمتنا الإنسانيَّة النبيلة، بأنْ نشيع التفاؤل (ونقتل) اليأس الذي كان أحد أهم الأسباب في انتحار، ليس فقط أناسٍ عاديين، بل أدباء بينهم من حصل على جائزة نوبل في الأدب.
