عبد الرزاق الربيعي: للشعر غاية معرفية وجمالية

ثقافة 2024/06/02
...

  حاوره: علي لفتة سعيد

الشاعر والمسرحي عبد الرزاق الربيعي.. اسم لا تخطئه الذاكرة العراقية ولا الساحة الإبداعية العربية.. حتى وهو يحط رحاله في سلطنة عمان، فيختارها مكانا لراحته الإبداعية فهو يبقى بجذوره مرتبطا بالطين والنسيم والنخيل وإن تداخل معها نسيم وخضرة الخليج.
هو باختصار شاعر وكاتب مسرحي له أكثر من إصدار مسرحي، منها الصعاليك يصطادون النجوم {مسرحيات}، على سطحنا طائر غريب {نصوص مسرحيّة} وحلاق الأشجار {مسرحيات للأطفال}، قدمت له العديد من النصوص على خشبات المسارح العمانية، والعربية وشارك بعضها في مهرجانات دولية. وهو نائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي (2020 - 2023) وعضو لجنة فحص النصوص بوزارة الثقافة والرياضة والشباب العمانية، عمل في الصحافة الثقافية والفنية في بغداد وعمان، وصنعاء ومسقط.
* من هو عبد الرزاق الربيعي، وما الذي جاء به إلى الشعر؟

- طفل الستّين الذي يقبض على طفولته، كما يقبض على وردة، تنعشه، وتجعله يرى الحياة بعيونٍ أجمل، هذا الطفل تجتمع في ذاته" سذاجة الطفل وعاطفة وطيش الشاب وحكمة الشيخ" كما يصف نفسه رسول حمزاتوف.
وأنا لا أعرف حقيقة من الذي جاء بي إلى الشعر؟ لأنني وجدتني حين وعيت وجودي في عالم بائس، أنساق إليه، قبل تعلّمي القراءة والكتابة، كنت أصعد فوق سطح بيتنا الكائن في مدينة شعبية تضجّ بالفقراء، كانوا يطلقون عليها مدينة (الكادحين والفقراء) اسمها القديم (الثورة)، تيمّنا بالـ(ثورة) التي قضت على الحكم الملكي، والعائلة المالكة، فيما يبكي أبناء هذه المدينة على العائلة المالكة وتعلّق، سرّا،  صور الزعيم الذي قضى عليها!
في مفارقة عجيبة، فكنت اختلي بنفسي فوق السطح، وأغنّي، مثلما كان يفعل أعمامي، حين يضطجعون على أسرّتهم مستذكرين جنوب الأنهار، والطيور، والأسماك، وحين أطلق تلك الزفرات، أشعر بارتياح شديد، وأنزل لأواصل ألعابي مع الأطفال، هذه الزفرات تحوّلت بعد أن عرفت القراءة والكتابة إلى حروف وكلمات. لقد وجدت في الكتابة الشعريّة متنفّسا عما يختلج في روحي من ردّات أفعال عن البؤس الذي كان يحيط بحياتنا، وفضاء مناسبا في التعبير عن مكنوناتي وتفاعلي مع الواقع خاصة وأنه يعبّر عن كثير من القضايا المسكوت عنها بشكل غير مباشر، فسلكت طريقه، وكما قال الشاعر:
مشيناها خطى كُتبت علينا...
وإذا كان برغسون يقول :"في كل إنسان شخصية صوفية تحتاج إلى من يوقظها من سباتها" فأنا أقول في كل إنسان شخصية شعريّة تنتظر من يستخرجها، ويوفّر لها البيئة المناسبة، وقد وجدت هذه البيئة التي تحتضن الهواجس التي كانت تهيمن عليّ.

* ثمة خيطٌ يجمع النص الذي لديك بالمكان والذاكرة.. هل لعبت الغربة أو الانتقال المكاني في صياغة هكذا نصوص شعرية؟

- الشعر ابن التجربة، والشاعر لا يكتب من فراغ، يقول ريلكه: "من أجل قصيدة واحدة، عليك أن ترى مدنا عديدة، بشرا وأشياء كثيرة." نعم للغربة، بوعي أو بلا وعي، أثر كبير في صياغة نصوصي، المشدودة إلى الأماكن الأولى بحبال الحنين، وتشكّل الذاكرة معينا لا ينضب، فهي تمدّ الشاعر بالخبرات السابقة عندما يستدعيها لتعمّق التجربة وينطلق بمخيلته إلى الأمام.

*أمام كل مخاضات العالم الذي تبحث فيه الشعوب عن خلاص أخير، هل ثمة نفع من الشعر أو الأدب بصورة عامة؟

لا تُخضع الفنون والآداب لقانون "المنفعة" الشخصية، أو العامة، فهي ممرّات لخطابات علوية، ترقى بالحس الإنساني، وتحافظ على كينونته وثوابته، والشعر من الفنون التي رافقت الإنسان منذ بدايات تشكّل الوعي لديه، وإدراكه لذاته، وتيهه في محيط بلا قرار، لإثبات الذات في عالم وجد نفسه به وحيدا يسير نحو مصير غامض، يقول الدكتور بشير ونيسي"للشعر غايتان معرفية لكونه ذاكرة كونية تخزن الأفكار، وجمالية تحرك فينا ديمومة الزمن وتبذر فينا الانفعال الحي والقلق المتجدّد".

* لنعيد السؤال بطريقة أخرى تعتمد على تصريح لك أن "الشعر منقذ من الجفاف، ومن خلاله نسعى للكمال" ألا تعقد أنه تجربة شخصية لم يعد لها أثر، في ظلّ متغيّرات العالم الايدلوجية سواء منها السياسية أم الدينية؟
- الشعر الذي لا يجد له مكانًا في عالم اليوم هو الشعر الذي لا يترك أثرًا لدى المتلقّي، ولا يواكب هذه المتغيّرات، وبدون ذلك سيجد نفسه معزولًا عن حركة الحياة، وقانونها الأزلي: البقاء للأصلح، والأكثر فائدة، ولا يمكن أن تختفي الذاتية من أيّ نصّ حتى التعبير عن القضايا الكبرى، هي نتيجة إيمان الذات بهذه القضايا ويأتي التعبير عنها كردّة فعل.

* الشعر والمسرح ربما يلتقيان في الإبداع لكنها لا يسيران معا.. ألا تعتقد أن المسرح يحتاج إلى صناعة والشعر إلى دهشة؟

- منذ أن وقف الشاعر اليوناني اسخيلوس على خشبة المسرح، معلنًا ولادة فنّ جديد، دخل المسرح صومعة الشعر، ولم يخرج منها،  لقد بدأ المسرح شعرًا وبقي الشعر نسغًا في المسرح النثري، من خلال بعض الحوارات وبعض الأفكار التي تطلقها الشخصيات، ولذلك كتبت المسرحية الشعرية والنثرية ولم أجد هذا التقاطع بين الشعر والمسرح، فمثلما تكتب القصيدة موزونة ونثرًا، كذلك المسرح يكتب شعرًا ونثرًا وتبقى عناصر الشعر حاضرة في الاثنين ولم يتخلص المسرح من جذوة الشعر، فهو أيضا دهشة وصناعة بالوقت نفسه، مثلما الشعر أيضا، والجاحظ يقول "الشعر ضرب من النسج وجنس من التصوير".  

* لم تزل تقف في المنطقة الوسطى من صراع قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ما مدى تأثير ذلك  على الفاعلية التدوينية؟ وما مدى تأثير الصراع بين قصيدة النثر وقصيدة العمود على هوية الشعر وتلقّي الجمهور؟

- يجب ألّا يقف الشعر عند محطّةٍ معينةٍ وشكلٍ معينٍ، والعصر الحالي يتطلّب شكلًا فيه مساحةٌ كبيرةٌ للتعبير، حتى يستطيع أن يستوعب الأحداث ويعالجها شعريًا بشكلٍ مؤثّرٍ ومدهشٍ، وهذا لا يعني عدم العودة للتفعيلة إيمانًا من الشاعر بأن فكرة ما، تتطلّب إيقاعًا معينًا، فيه شيء من الانضباط، وفي الأخير كلّ أشكال الشعر جوهرها الإيقاع، فأنا مؤمن بأن قصيدة النثر لا تخلو من إيقاع خاص بها.

* الشعر كما يقال لا يحتاج إلى نقد.. لكن الجميع ومنهم الشعراء يعدّون النقد هوية أو مرآة أخرى للنص الابداعي. هل تؤمن بفردانية الإنتاج الأدبي وخاصة الشعر أو أن الفردانية لا تكتمل إلّا بوجود مرآة النقد؟

- في لحظة الكتابة لا يفكّر الشاعر بالناقد ولا يحتاج إليه لكنه عندما يطلق النص ينتظر انطباعات وآراء المتلقين بضمنهم نفسه، فغالبا ما يبدأ هو بقراءة هذا النص، ليكون القارئ والناقد الأول له، وبالتأكيد النقد والأدب والشعر صنوان لا يفترقان وتربطهما علاقة جدلية، فالشعر يخطو للأمام بدون نقد وكذلك الحال، لا يوجد نقد بدون وجود نصوصٍ إبداعية، وعندما تفتقر الساحة للتصدّي النقدي، تفقد بعض التجارب فاعليتها، فالنقد هو الذي ينوّه على جماليات النص، ويأخذ بيد المتلقّي العادي إلى الأسرار الجمالية للنص، وكيف تتشكّل الأفكار بداخله، لتصبح فاعلةً ومؤثّرة.

* لا نسأل عن اختلاف المكانين العماني والعراقي. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، لكني أعيد صياغته. هل المكان العراقي أكثر تجريبًا والمكان العماني أكثر انفتاحا؟ أم أن التجربة الشعرية لا يحدّها مكان لأنها صياغة كونية؟

- التجربة الشعرية لا يحدّها زمان ولا مكان، فأحيانا يكتب الشاعر القصيدة من خلال استعادة أحداث من الذاكرة قد يكون عاشها أو لم يعشها، كما هو الحال في توظيف التراث والتاريخ، وعلى مستوى المكان، فالشاعر قد لا يستقر في مكانٍ معيّنٍ وينتقل من مكانٍ لآخر، ونجده يتفاعل مع هذا المكان ويكتب نصوصًا تعكس هذا التفاعل، ولدينا نماذج كثيرة، وحياتي عبارة عن محطّاتٍ في مدنٍ عديدةٍ، وقد تركت في كلّ محطّةٍ عددًا غير قليلٍ من القصائد، وبعض الأماكن تعطي الشاعر الكثير، وللمتنبّي مقولة يبين فيها  أثر المكان على الشاعر هي "الشعر على قدر البقاع" وللمكان العماني تأثيراته على فلقد أمضيت حوالي نصف عمري في حوار مع هذا المكان.

* واحدة من أغراض الشعر سعيه إلى تحول القضية الوطنية أو الاجتماعية إلى وسيلة توصيلية للناس. هل يمكن أن يكون للشعر مكان في هذه القضايا العربية ومنها الفلسطينية؟

- بالتأكيد، ففي بعض المواقف برأيي يجب أن يكون للشعر موقفًا، فالشعر رسالة إنسانية وجمالية، ومن الصعب فصل الشعر عن الواقع ومجرياته، والقصيدة في حدّ ذاتها غالبًا ما تكون نتيجة احتكاك الشاعر بالواقع ومعايشته للأحداث الكبيرة والصغيرة أحيانا، المتمثّلة ببعض التفاصيل اليومية، فكيف يكون الحال مع قضية كبرى كالقضية الفلسطينية؟ وتفاعل الشاعر العربي اليوم مع الأحداث التي تجري في غزّة منذ السابع من أكتوبر إلى اليوم، دليل على علاقته الوثيقة بالقضايا الوطنية والقومية الكبرى.

* الشعر قد يكون فعل مخيّلة لكنه صاحب رسالة.. بمعنى وجود التفاعل بين النص الشعري والصدق، لكن البعض يفصل من كون الشعر ليس له ارتباط بالأخلاق مثلا أو الانتماء الوطني؟

- هناك اتجاه (الفن للحياة) يرى أن الرسالة أساسية، وهناك اتجاه (الفن للفن) وأن الفن يجب أن يكون بعيدًا عن هذه الرسائل وينبغي التركيز على جماليات النص، ومن وجهة نظري، يجب أن يكون النص حاملًا لرسالةٍ إنسانية، وفي الوقت نفسه يجب أن يضع الشاعر الجوانب الجمالية بنظر الاعتبار، لأنه في كلّ الأحوال يجب أن يكون التأثير في المتلقّي هدفًا أساسيًا الشعر، فيما الرسائل تكون ذائبةً في صلب القصيدة، ويعبّر عنها الشاعر بشكلٍ غير مباشرٍ، وهذا ما يميّز شاعر عن غيره.