عبد الكريم قادري
لم يحد المخرج المصري أحمد عبد الله في فيلمه {19 ب}، عن أسلوبه السينمائي، الذي كرّسه في أفلامه السابقة، ليصبح بمثابة البصمة أو الهوية التي تعكس طريقة اشتغاله ومعالجه ورؤيته للأشياء، وهي المعطيات التي أكدها في هذا العمل، وقد طرح فيه حزمة من الأسئلة الوجودية، التي تحاصر الإنسان وترهقه عن الجدوى والرضا والحقيقية والعزلة والابتعاد عن الناس.إضافة إلى التعلق بالماضي والأشياء القديمة المتهاوية، والسعى وراء اقتطاع حيّز جغرافي معين وعدم المجازفة بالخروج منه.
حتى لا يتم الاصطدام بالعناصر التي تبنى الواقع وتؤسسه، بما فيه من خيبات متتالية وآلام مبرحة وأوجاع لا تنتهي، وإن كانت هذه العزلة تشكّل مرحلة أخرى من الحياة، بآلام مختلفة، ليتحول الأمر إلى هروب صريح من خبايا الوجود، وما يختبأ فيه من شر وخير، وما يتناسل من هذين المفهومين المعقدين اللذين يقودان الإنسان في اتجاه ما.
كل هذه المعطيات الفلسفية وأخرى، استطاع المخرج أن يسقطها على الشخصية الرئيسة، التي عكسها حارس بيت قديم مهجور آيل للسقوط (سيد رجب)، تحيط به
القطط والكلاب الضالة التي يرعاها، وأكثر من هذا نسج معها علاقة ود غير عادية، وأطلق عليها أسماء حتى يحس بوجودها أكثر، لتصبح بالنسبة له أكثر من حيوانات، تقترب قيمتها بالنسبة له إلى البشر، وفي أحيان أخرى أكثر، لهذا سمّى أحد كلابه اسم "عنتر"، من هنا يتحول العالم الحقيقي بشساعته وتفاصيله وحكاياه وامتداده بالنسبة له، إلى مجرد أمتار تحدّها
جدران البيت المهجور، الذي يوشك أن يسقط في أي لحظة، إضافة إلى ما يحتويه من فراغ وأبواب متآكلة وممرات عالية، بلا موجودات أو أثاث، فقط قطع وحاجيات مرمية في بعض الزوايا، يغطيها الغبار من كل جهة، يؤنسه في تلك الوحدة، مذياع قديم يضبط تردداته على أغنية من الزمن الجميل، أو يطربه مواء قطط حديثة الولادة، اختار لها حقيبة قديمة لتنام فيها في الطابق الأول، تزرع فيه وفي زوايا البيت بعض الحياة، تكسر الوحدة وتزيح بعض
العتمة من قلبه ومحيطه.
استطاع المخرج وكاتب السيناريو احمد عبد الله أن "يؤنسن" بعض الأشياء في "19 ب" ويقنع المتلقي بها، من بينها البيت الذي أصبح أكثر من جماد بالنسبة إلى الحارس، بل هو حياة بكل تفاصيلها، لهذا وجب الدفاع عليه من أي أذى خارجي، حتى بعد أن عرف بأن أجرته الشهرية، التي يتقاضاها تأتيه من المحامي كسخاء منه، وليس من ورثة البيت مجهولي العناوين، ورغم هذا بقيَّ في حراسته ليلا ونهارا، إضافة إلى القطط والكلاب التي تجاوزت "حيوانيتها" بالنسبة للحارس، وتحوّلت لكائنات بشرية، لهذا بكى الكلب "عنتر" بحرقة عندما فقده، لأنه أكثر من حيوان أليف بالنسبة له، هو فرد من عائلته، ونصر بات مجرم قاتل، وإن كان الأخير قتله من أجل التسلية أو لتخويف الحارس وتحذيره من بطشه، لأن نظرته لهذا الحيوان تختلف عن نظرة الحارس، من هنا تحول الأمر إلى ثأر وانتقام وعدالة يجب أن تقام، بعد أن انعدمت سبل القصاص، لتصبح تلك الأشياء إلى أركان مهمة في صناعة هذا الفيلم، وأكثر من هذا تحوّلت الحيوانات إلى ممثلين بأبعاد درامية، خاصة الكلب عنتر، الذي عكس قيمة عاطفية نسجت علاقة تواصلية بينه وبين المتلقي، لهذا كان فقدانه بمثابة فقدان بطل محبوب لدى المتلقي، وقد كسب المخرج أحمد عبد الله هذا الرهان في الفيلم، أي أنه نجح في تحويل تلك الأشياء إلى مصدر عاطفة قوية خلقت تعاطفا مع الجمهور وبالتالي بدأ يحس بها، ويكره كل من حاول أن يؤذيها، ليتحول الجمهور إلى مشارك أساسي في الفيلم، يدافع بطريقته على ضرورة أن يحافظ الحارس المسن على عزلته و"بيته" المتداعي، وفي الوقت نفسه يشاركه في كره نصر قاتل الحيوانات وقاطع العزلة.
تعدد الجماليات في فيلم "19 ب"، فقد انعكست في "الكادرات"، التي تم التقاطها بعناية فائقة، بأبعاد وزوايا مختلفة، ما خلق اختلافا بصريا واضحا، ساهم بشكل ما في هضم الزمن الدرامي في الفيلم (95 دقيقة)، إضافة إلى تقديم شرح بصري واضح عن المكان الذي جرت فيه تلك الأحداث، وذهبت أبعد من ذلك من خلال شحن العواطف عن طريقها، وكل هذه المعطيات استظلت تحت لغة بصرية قوية، وهو الأمر الذي يثبت فهم المخرج للأبعاد الجمالية والموضوعية التي تبنى حولها السينما، وهي الابتعاد قدر الإمكان على الثرثرة والحشو، والمحاولة الدائمة لإعطاء الفيلم لغة بصرية تخلق هويته الجمالية والموضوعاتية.
استطاع الممثل سيد رجب أن يعكس صورة الرجل المسن المتعلق بأشيائه القديمة وحياته، التي بناها منذ عقود، أقنع المتلقي بتلك الحياة الآمنة التي لا يريد أن يبتعد عنها، وبالتالي أعطاه المبرر كي يستعمل أي طريقة حتى يحافظ عليها، حتى بعد قتل أو المساهمة في موت نصر، فالعلاقة بينه وبين المتلقي لم تتأثر، لأن الفيلم قدّم المعطيات الكافية لعدم لومه، كما استطاع هذا الممثل المقتدر أن يتنقل من حالة إلى حالة بكل سهولة، يتلاعب بالعواطف، مثل أحاسيس الحزن والفرح والحسرة والبكاء واللوم والتهديد وغيرها من تلك الشحنات، وهو الأمر الذي يظهر بأنه فهم أبعاد الشخصية من الناحية الفيزيائية والنفسية على السواء، وهي المهنية نفسها التي أظهرها الممثل الشاب أحمد خالد صالح، الذي عكس هو الآخر احترافية والده خالد صالح، أخذ عليه نفس تلك الملامح القوية والمعبرة، لتكون عملية اختيار الممثلين وإدارتهم موفقة بدرجة كبيرة، إذ ساهموا في أن يكون العمل بتلك الطريقة، ليكون فيلم "19 آب" من بين أعمال أحمد عبد الله المهمة، حافظ من خلاله على نسقه الإخراجي ونفسه السينمائي المتفرد.