ألبرتو جياكوميتي.. وجوديّة الفضاء والحجم

ثقافة 2024/06/04
...

 ألبيرتو جياكوميتي
 ترجمة وتقديم: عزالدين بوركة

"لا تتسيّد المنحوتة أي منحوتة أخرى. فهي ليست غرضا، بل إنها استفهام، سؤال، ومعطى. إنها لا يمكنها أن تكون منتهية أو مثالية" جياكوميتي.
اشتهر الفنان النحات والتشكيلي السويسري ألبرتو جياكوميتي (1901-1966) بمنحوتاته النحيلة والغرائبية، والتي غالبًا ما تعدّ رموزًا وجودية. إذ رأى جياكوميتي في النحت وسيلة لالتقاط تعقيد الواقع الإنساني. لهذا، إجمالا ما يُنظر إلى أعماله على أنها تأملات في هشاشة الحياة وسرعة زوالها. لم يسع إلى تمثيل المظهر الخارجي فحسب، وإنما راهن على الجوهر الداخلي لكائناته.
تتميز منحوتات جياكوميتي الأكثر شهرة بنِسَبِها الطويلة للغاية ونحافتها. تبدو -عموماً- الأشكال البشرية، التي يعمل الفنان على نحتها، رفيعة القدّ وممدودة في الفضاء، مما يعكس البحث الدؤوب لهذا النحات عن جوهر الإنسان؛ ويبيّن تأثره بالرسومات الأولية.
عمل جياكوميتي في المقام الأول بالبرونز، على الرغم من أنه استخدم الجص أيضًا في دراساته الأولية. غالبًا ما كان ينحت مباشرة في المادة، مما أعطى لأعماله ملمسًا خامًا وإحساسًا بالحركة. ومن أهم خصوصيات أعماله التناقض بين الحجم الصغير لبعض المنحوتات وأهمية التعبير عنها. هذا التجاور يجعلنا أمام تشكيك فيزيولوجي وطوبولوجي في تصور الفضاء والحجم.
ومن الناحية الفلسفية، يمكننا استقراء تأثير الفلسفة الوجودية في شقها الذي نضج عند مطلع القرن العشرين، خاصة من خلال لقاءاته مع مثقفين أمثال جان بول سارتر، في منحوتاته. لهذا - بشكل شامل- ما تعبّر أعماله عن الوحدة والعزلة وهشاشة الوجود الإنساني.
لقد أعاد جياكوميتي تعريف النحت في القرن المنصرم، مبتعدًا عن الأشكال الكلاسيكية واستكشف أبعادًا جديدة للتعبير البشري والسيكولوجي. ويستمر عمله في إلهام الفنانين المعاصرين، الذين يستكشفون الحالة الإنسانية من خلال الأشكال المجردة والتلاعب بالفضاء.
النص
لا يمكنني أن أتحدث عن منحوتاتي إلا بصيغة غير مباشرة، وكلّي أمل أن أتحدث جزئيا فحسب عن الدافع إلى نحتها.
لسنوات، لم أعمل على تحقيق سوى المنحوتات التي اكتملت تماما في ذهني، وقد اقتصرتُ على إنتاجها في الفضاء من دون أدنى تغيير، ودون أن أسأل نفسي عما يمكنها أن تعنيه (يكفي أن أتعهد بتعديل جزء منها أو ما إذا كان ينبغي أن أبحث عن بُعد ما حتى أضيع تمامًا ويدمر الغرض بأكمله). لم يظهر لي شيء قطّ على هيئة لوحة، نادرًا ما أراه على هيئة رسم. إن المحاولات التي قمت بها أحيانًا لانشاء لوحة أو حتى منحوتة بشكل واعٍ باءت دائمًا بالفشل.
 بمجرد انشاء الغرض، أميل إلى العثور فيه على صور وانطباعات ووقائع أثرت فيّ بشدة (غالبًا من دون إدراكي)، وأشكال أشعر أنها قريبة جدًا مني، لدرجة أنني عموما ما لا أتمكن من التعرف عليها. مما يجعلها أكثر ارباكا بالنسبة لي.
آخُذ على سبيل التمثيل المنحوتة المعاد إنتاجها والتي تمثل قصرًا. لقد تشكل هذا العمل شيئًا فشيئًا في متمّ صيف عام 1932، وقد اتضح لي ببطء، حيث أخَذَت الأجزاء المختلفة أشكالها الدقيقة ومكانها الدقيق ضمن الكلّ. وعندما حلّ الخريف قدم لي حقيقةً لم يستغرق تنفيذها في الفضاء أكثر من يوم واحد.
إنها بلا شك تتعلق بفترة من حياتي، منذ قبل عام مضى، بفترة الستة أشهر التي أمضيتها ساعة بساعة مع امرأة، تركزت حياتي كلها عليها، محملةً في كل لحظة
بخطة من الاندهاش.
كنا نبني قصرًا رائعًا في الليل (كانت الأيام والليالي لها اللون نفسه، كما لو أن كل شيء قد حدث قبيل الفجر؛ ولم أر الشمس طوال هذا الوقت)، قصرًا هشًا للغاية من أعواد الثقاب: على أقل تقدير حركة خاطئة، انهار جزء كامل من البناء الصغير؛ كنا نبدأ الأمر دائما من جديد. لا أعرف لماذا تم تسكينه بالعمود الفقري في القفص - العمود الفقري الذي باعتني هذه المرأة في إحدى الليالي الأولى التي قابلتها في الشارع- وأحد الطيور الهيكلية التي رأتها في الليلة ذاتها سبق الصباح الذي انهارت فيه حياتنا معًا -الطيور ذات الهياكل العظمية التي كانت ترفرف عاليًا فوق بركة المياه الخضراء الصافية.
حيث كانت تسبح الهياكل العظمية الدقيقة جدًا والبيضاء جدًا للأسماك، في الغرفة الكبيرة المكشوفة وسط صيحات التعجب في الساعة الرابعة صباحًا.
الصباح، في المنتصف ترتفع سقالات برج ربما لم يكتمل؛ وربما أيضًا، الذي انهار الجزء العلوي منه بالكامل، وتكسر. وعلى الجانب الآخر تم وضع تمثال لامرأة، اكتشف فيه أمي مثلما هي عليه.
أعجب بذكرياتي الأولى. أزعجني الفستان الأسود الطويل الذي لامس الأرض بغموضه؛ بدا لي وكأنه جزء من الجسد، وهذا سبّب لي شعوراً بالخوف والفزع؛ لقد ضاع كل شيء آخر، وهرب من انتباهي.

المصدر:
Alberto Giacometti, Pourquoi je suis sculpteur, éd. Fondation Giacometti, Paris, 2016, p. 7-9.