الدين في أفق المعنى

ثقافة 2024/06/04
...

  د.ضياء خضير

{الدين حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية}. هو، التعريف أو المقولة المفضلة التي يقترحها الدكتور الرفاعي للدين، حيث يخرج الدين عنده فيها من مضمونه الكلامي والفقهي التقليدي ليلامسَ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الغائب عن حياتنا الاستهلاكية المعاصرة. وهو أمر يمكن أن نرى فيه على جماله منحى رومانسيًا غير قابل للتحقق بسهولة وسط تعقيدات الوضع البشري الراهن؛ ولكن الرهان عليه يبقى عند الدكتور الرفاعي نوعا لا بديل عنه من أجل العودة إلى المنابع الأولى للدين، والمتمثلة في تلك الجوانب الأخلاقية والجمالية والروحية والوجودية التي لا يستكمل الإنسان إنسانيته من دونها.

 والمشكلة في هذا النوع من الكلام تتصل بتحديد ما نقصده بمعنى هذا المعنى، الذي لا يذكر لنا الرفاعي شيئا عن دلالته البنيوية على نحو أكثر دقةً وتحديدا.
والكيفية التي يمكن أن يخرج الكلام فيه من العموم إلى الخصوص من خلال التحليل اللساني للنصوص، أو تغيير المخطط الذي درج عليه علماءُ الكلام، ولاسيما المعتزلة منهم في رؤيتهم لعموم هذا المعنى الوجودي المرتبط أساسًا بالمنطق الصوري الأرسطي.
وغير ذلك من أمور تحتاج إلى توسّع وتفصيل أكبر.
 والشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقال.
 وما دام الدكتور الرفاعي يؤكد لنا طوال الوقت إن إنتاج المعنى الروحي والجمالي لا يدخل ضمن اهتمام الفقه والفقهاء وقوانينهم المنظمة للعبادات وكل شؤون الحياة، فليس غريبًا أن تتجه أنظار المثقفين الشباب وسط غياب هذا المعنى أو تبعثره في هذا العصر، كما في عصور سابقة، إلى ما تقوله الفلسفة والعلوم الحديثة من أن حقائق ما وراء العقل توقيفية، لا يملك العقل الإنساني إمكانية القطع فيها، وأنّ المعنى في ظل غياب حقيقة مركزية من هذا النوع لا بدّ أن يتعدد ويتشظّى، أو أنه، كما يقول الفرنسي بول ريكور، لم يعد اليوم قضيةً تتعلق بتفسير النصوص الدينية فقط، بل تتصل أيضا بتداخل العلوم.
(بول ريكور، صراع التأويلات – دراسات هيرمنيوطيقية، ترجمة د منذر عياشي، بيروت، 2004، ص100) وأن الوصول إلى يقين ثابت لمقاربة هذا المعنى بشكل أكثر دقةً وتحديدا يحتاج إلى قوس واسع من التأمل والنظر الذي نستحضر فيه القواعد المعرفية المرتبطة بالوضع اللغوي، والاجتماعي، والإعلامي، والتربوي الذي يجد الإنسانُ نفسَه فيه، وما يتقيّد به عقلُه تبعًا لذلك في حركته ونطاق تفكيره.
وكذلك فيما يتسرب إلينا مما يسميه جاك ديريدا بالعقل التلفزيوني أو التكنولوجي - العلمي.
وجوهر التفكيكية التي دعا إليها هذا الفيلسوف الفرنسي هو تفكيك المعنى ونفيُ مركزيته التي هي هدف المنهج البنيوي السائد في الدراسات اللسانية.  
وكلُّ ذلك لا يجعل العبارةَ السابقة بالوضوح الذي نتخيله لدى التأمل فيها، على الرغم من صورتها اللغوية والبلاغية المغرية، واتفاقنا مع المؤلف على ضرورتها في حياتنا.
فهي، رغم اختصارها وجمالها، تفتح هوّة من التساؤلات حول ما نقصده بقولنا إن (الدين حياة في أفق المعنى)، في جوانب عديدة كالجانب التجريبي الذي قال به البريطانيان دافيد هيوم وجون لوك اللذان يريان في العقل صفحةً بيضاء، يمكن الكتابة عليها بطرق مختلفة تحددها التجربة، وجانبه الفلسفي الذي قال به فلاسفة مثل ديكارت في القرن السابع عشر، الذي يرى احتواء العقل على أفكار فطرية، ثم ما قال به كانت في القرن الثامن عشر من أن في هذا العقل مقولاتٍ قبلية categories أساسية يستطيع أن يتعامل مع معاني الأشياء من خلالها.
فضلا عن علاقة هذا المعنى بمشكلة اللغة التي يمكن أن نتخذ من الإشارة القرآنية الدالة في الآية الكريمة "وعلّم آدمَ الأسماءَ كلَّها"، وبيان المقصود بها: هل هو معرفة آدم باللغات البشرية كلّها، أو هو قدرة العقل الإنساني على الفهم بما أودع الله فيه من جهاز لغوي يمكنه من التعامل مع الأسماء ومعانيها خلافًا لبقية الحيوانات، كما ألمح إلى ذلك بعضُ المفسرين وعلماء اللغة مثل ابن جني في (الخصائص) خلال كلامه على أصل اللغة هل هو توقيفي أم وضعي.
وما نقله الدكتور الرفاعي عن محي الدين بن عربي بمناسبة كلامه على (روافد الشرّ الأخلاقي) حول اختلاف الناس في تفسير مدلول كلام الله يؤكد هذه الحقيقة التي تشير إلى تعدد المعنى وعدم ثباته: " كلام الله إذا نزل بلسان قوم فاختلف أهلُ ذلك اللسان الفهم عن الله ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختلاف مدلولاتها، فكل واحد منهم وإن اختلفوا فقد فهم عن الله ما أراده، فإنه عالم بجميع الوجوه تعالى، وما من وجهٍ إلا وهو مقصود لله تعالى بالنسبة لهذا الشخص المعيّن ما لم يخرج من اللسان، فإن خرج فلا فهم ولا علم".
(د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ط 2 ، 2022، دار الرافدين، بغداد، ص 175)    
ونحن نتخذ من كل ذلك دليلًا آخر على صعوبة الحديث عن معنًى ثابت ومحدد لهذا المعنى.
وفي ضوء تعريف الرفاعي للإنسان، الذي أورده في الفصل الرابع من كتاب الدين والكرامة الإنسانية، عندما يقول: "يمكن أن نُعرِّفَ الإنسانَ بأنه: كائنٌ عاقلٌ، عاطفيٌّ، أخلاقيٌّ، دينيٌّ، جماليٌّ، اجتماعيٌّ، تاريخيٌّ.
الإنسانُ كائنٌ متفرّدٌ، يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بـ : العقل، واللغة، والعواطف، والمخيّلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة للأخلاق، والدين، وإنتاج الميثولوجيا، والرموز"، ربما كانت معارضة الدكتور الرفاعي لأرسطو في تعريفه للإنسان بالحيوان الناطق لا تأخذ بنظر الاعتبار أن النطق يشير بحد ذاته إلى العقل، الذي لا وجود له دون وجود هذا النطق المرتبط باللغة ارتباط الآلة بالقوة المحركة لها، والكاشفة عن وجودها.
فضلًا عن أن ما يقوله الدكتور الرفاعي من أن "الإسلام بمضمونه الكلامي والفقهي غيرُ الإسلام بمضمونه الروحي والأخلاقي وفقا لرؤيتنا للدين بوصفه حياةً في أفق المعنى"، (عبد الجبار الرفاعي، المرجع نفسه، ص 85) يجعل من الصعب تصور وجود هذا المعنى، حتى في إطار العرفان، نعم يصعب تصور هذا المعنى معلقا هكذا في الهواء دون ارتباط بواقع الحياة التي ينتمي فيه أصحاب هذا العرفان إلى نوع من المضمون الكلامي والفقهي.
وليس كل الناس يمتلكون "مجهر العرفاء" الذي يمتلكه الدكتور الرفاعي ليرى به شيئًا من النور يغريه بحب بعض الناس دون غيرهم ممن لا يكفي "مجهر علماء النفس" لإغوائه بمحبتهم!  
والمتصوفة الذين واجهوا معارضة من قبل السطات الحاكمة، والفقهاء المرتبطون بهم في عصرهم، وصلت حدَّ القتل والتصفية الجسدية بفتاوى ومحاكمات مكتوبة
ومعلنة، مثل الحلاج والسهروردي الشهيد، قد جرى بسبب كونهم متهمين بالدعوة إلى أيديولوجية معارضة وموقف آخر يعتقد الخليفة أو السلطان الحاكم بخطورته عليه وعلى دولته من الناحية السياسية والعقديةالمقررة.