ريسان الخزعلي
(1)
الشاعر المبدع إبراهيم البهرزي له من الحضور الشعري ما تقصر عنه التّوصيفات العالية في الإطراء: فنيّاً، ثقافيّاً، لوناً شعريّاً، موهبةً، تجربةً، والكثير من محددات الإبداع. ورغم قلّة ما ينشرهُ في الصحافة والدوريات، ورغم إصداره مجموعة شعرية واحدة - صفير الجوّال آخر الليل عام 2003 ضمن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتي لم تحظ بتوزيع في المكتبات العراقية – إلّا أنّه اسمٌ راسخ في مشهد الشعر العراقي منذ نهاية السبعينيات. كما أنّه تمترس بعزلة أملتها ظروف سياسية عراقية معروفة بتعارضاتها وتقاطعاتها التي حصلت بعد انهيار التحالفات عام 1978, إلّا أن تلك العزلة لا تعني انقطاعه عن الكتابة، فقد كتب الكثير واكتنزهُ في الذاكرة والأدراج حتى وإن لفح بعضه الفقدان. وها هوَ يجمع كل ما تراكم لديه في عمل شعري ضخم بأكثر من 700 صفحة، وبعنوانٍ لافت: شرفة نيتشه، منشورات دار ميزوبوتاميا عام 2015. والغرابة أنَّ هذا العمل قد مرَّ بصمتٍ على التلقّي بكلَّ مستوياته لأسباب عليلة الصدق، في حين يمكن اعتباره أهم انجاز شعري يحصل في عام 2015 لو كانت المقاييس تخلو من تعرّجاتها وانكساراتها.
إنَّ البهرزي وقف متحسراً حين أدركتهُ الصيحة الروحية، والنداء الداخلي، لأن يفترض أنّهُ شاعرٌ يجمع ُ تراث شاعرٍ آخر، إذ يقول:
وحيث لم تُتح لي بعد ذلك – ويقصد تاريخ صدور مجموعته الأولى – فرصة لطبع مجموعة أخرى ولإحساسي بضياع الكثير من مسوّدات النصوص خاصة وأنني نادراً ما أنشر في صحف ومجلات، فقد رأيت أن أنشر ما تراكم لديَّ في مجموعة واحدة دون مراعاة للتصنيف حسب السياقات الزمنية للكتابة، في مجاميع متوالية، مفترضاً نفسي أجمعُ تراث شاعر آخر غيري، وهو ما حصل.
إنَّ الشاعر في هذا الاستدراك يعكس مفارقة انشطار كبيرة، وكأنهُ يُرثي أو يستهجن الزمن الذي أبعده عن جدوى الحضور الفاعل في المواجهة الإبداعية، إلى درجة أن هذا الانشطار جعل منه أن يكون اثنين: الشاعر الآن والشاعر السابق، وهي محنة وجوديّة حقاً.
(2)
شرفة نيتشه، عمل شعري ضخم على مسنوى الكم والنوع، لايمكن أن تُحيطه هذه المحاولة الانطباعية التذوّقيّة التي تعتمد فن تقليب الصفحات في لحظة الكتابة هذه بعد أن سبقتها ساعات القراءة، حتى وإن كانت تفترض الإنصات والتمعّن الممكنيَن. غير أنَّ الملامح الفنية/ الجمالية تعلن عن نفسها مهما طالَ أو قصُر الاستطراد:
1 - البهرزي شاعر تجربة ذات أبعاد سياسية وروحية وعاطفية، وحين يكتب الشعر عن هذه التجربة، لا تلفحهُ رياح غيره لأن بعض غبار (المعركة) يُثقل متنيه هو الآخر. شاعر لا ينشغل بالتخاطرات الذهنية كون مجسّاته الحسيّة مدببة النهايات.
2 - التجربة في كتاب "شرفة نيتشه" تكاد أن تكون رواية ذات فصول، رواية ارتدت الشعر ثياباً، وما كان مثل هذا التوصيف أن يستقر في الانطباع لو كان الكتاب قد صدر بمجاميع متتالية. والرواية كجنس أدبي أصبحت من ممكنات إبداعه، إذ أصدر روايتين لحينه.
3 - بعد التجربة، يشخص بوضوح الشكل الشعري في الكتاب والذي يقوم على ثنائية قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر - والشاعر قدم إلى قصيدة النثر من قصيدة التفعيلة أساساً - وقصيدة النثر تأخذ نمطين من التشكيل: البناء العمودي كقصيدة التفعيلة، والأفقي – وهو الشكل التأسيسي لهذه القصيدة في نموذجها الفرنسي، نص قصائد محكيّة نموذجاً والتي أدرجُ استهلالها بعد نموذج لقصيدة التفعيلة:
أنتِ من قلتِ لو أنَّ عمري وعمركَ قد جُمّعا
فهما القرنُ في الطولِ والعرضِ
قلتُ:
وأي القرون؟
سُحلتْ بالخيولِ الأصيلةِ أعوامنا
ما عرفنا من الفارس،
السائسِ
الإسطبل..
وها نحن بالروث، ليس سوى الروث
نختطُّ سور الحياة المكين.
دخل برهو للمطعم، يقولُ للنادل أريدُ شيئاً ما آكلهُ، يقولُ النادلُ- تخدمُ نفسكَ بنفسك – ويذهبُ برهو للمطبخ، فلا يجد شيئاً، يقولُ له الطبّاخ – اطبخ بنفسك – لا يجد برهو ما يطبخه، يذهب للسوق يسألُ البقّال أعندكَ شيئاً أطبخهُ؟ يضحك البقّال يقول له عليك أن تزرع بنفسك..
* في هذا النص وشبيهه نص: البستاني في أيامه وأعماله أو دعهُ يعلو أو عن العلاج بالكتابة وغيرها، يسود السرد، ويتوارى الشعري، على العكس من نماذج قصيدة التفعيلة التي تزخرُ بالتركيز والبناء والتشكيل الصّوري:
أكادُ أكونُ حزيناً
وليس من الحزن إلّا بلادي
أكادُ أموتُ وحيدا
وليس من الشرْك إلّا فؤادي
أكادُ أنادي:
(أنا حجر..) يا تميم بن مقبل..
4 - قصائد كتاب "شرفة نيتشة" تتناوب بين القصيدة القصيرة ومتوسطة الطول والطويلة المسترسلة، أو الطويلة ذات المقاطع المرقّمة ونموذجها "ديوان الحساب"..، مما أضفى مناخاً غير خانق على جوّ الكتاب نتيجة هذا التنوّع.
5 - في مناجيات الشاعر لآخرين - أدباء وفنانين ورموز أخرى- واستحضارهم في المتن الشعري وكذلك الشطرات الغنائية الشعبيّة، ما يمنح نصوصه امضاءآت وتنجيمات وتوقيعات تُعلي من الدلالة الحياتية التي تلاحقها الفجائعيّة. وفي المفتتح الأخير، يصحُّ القول بأنَّ البهرزي في كتابه هذا فاعليّته الشعرية من خلال التجرية الواقعية وأنماط الشكل ووعي فكرة الشعر.