قيود الهويَّة.. حكاياتٌ من خلف الأسوار

ثقافة 2024/06/04
...

  عايدة جاويش

"قناع بلون السماء" رواية اشتثنائية تأتينا من سجن نفحة متجاوزة القضبان الحديدية محلقة بكاتبها باسم خندقجي، خارج أسوار السجن لينال الجائزة العالمية للرواية العربية 2024 .  يخرج خندقجي من سجنه ليتجول في شوارع القدس العتيقة ويمر على القرى الفلسطينية، باحثا عن هوية مريم المجدلية وهيويته متمسكا بلغته العربية، ليدرك أن كل امرأة فلسطينية تجسد المجدلية.
عشرون عاما من الأسر وحكم بثلاثة مؤبدات لم تثن عزيمة خندقجي عن تقديم عمل روائي، يعد إنجازا أدبيا وصل إلى قلوب وعقول القراء، فبالرغم من معاناته الشخصية في سجون الاحتلال، استطاع أن يعكس الصراع الداخلي للفلسطينيين ويلقي الضوء على تحديات الهوية والإنتماء في سياق معقد ومؤلم.
 تتناول الرواية قصة شاب اسمه نور مهدي الشهدي بصورة حميمية ومعقدة، يستعرض من خلالها مختلف مراحل حياته المحاطة بالصمت والعزلة في مخيم اللاجئين التي يولد فيه نور مرات عدة، وكل ولادة تكون مرتبطة بتجاربه وعلاقاته التي تشكل هويته وذاته التائهة.
يقرر نور كتابة رواية عن مريم المجدلية لتصحيح سيرتها والرد على رواية دوان براون "شيفرة دافنشي" وللانتقام من كل المستشرقين، الذين سرقوها من تاريخنا، لذلك يبدأ بتسجيل مقاطع صوتية عن المجدلية، محاولا بناء إطار تاريخي لروايته من خلال إدراج تفاصيل وحقائق تاريخية معينة مثل ثورة باركوخبا ومكان مريم المجدلية التاريخي "قرية اللجون الفلسطينية قرب القدس" مستغلا التاريخ ليلقي الضوء على جرائم الاحتلال الذي مسح قرى فلسطينية كاملة، وزرعها أشجارا،  فغدت غابات لذلك كان كلما رأى غابة عرف أن تحتها أنقاضاً قرى فلسطينية "أينما وجدت الأشجار في بلادي فتلك نكبتي.
يستخدم نور هوية إسرائيلية باسم أور شابيرا للوصول إلى أرضه التاريخية أرض روايته التي يكتبها وليكمل بحثه التاريخي، ساعده على ذلك ملامحه الأشكينازية "اليهود من أصل أوروبي" وإتقانه للغة الإنكليزية  والعبرية.
عمل مع بعثة تنقيب أثرية في موقع بالقرب من سجن مجدو، فيها من مختلف الجنسيات، تعرف هناك على أيالا شرعابي "يهودية صهيونية من أصول عربية" وعلى سماء إسماعيل المسلمة الفلسطينية من حيفا 48 "كما وشمت على ذراعها" ولا بدا للاشارة إلى حديث جرى بين خبيرة الاثار البلجيكية نيكول وبين ناتان رئيس البعثة الاسرائيلي كان يشرح لهم عن آثار وجودها اثناء عمليات الحفر، على انها آثار ارض التوراة والعهد القديم، لترد عليه (هل نسيت أنت أنَّني خبيرة آثارية، وأستطيع معرفة إذا ما كانت هذه الحجارة توراتية أم أنقاض قرية عربية مهجرة في حرب استقلالكم).
حوارات "نور وأور" الداخلية تشكل الجزء الديناميكي في الرواية وتكشف الاصطفافات والصراعات الثقافية والسياسية، حيث يظل نور يتساءل عبر مقاطعه الصوتية التي يرسلها إلى صديقة الأسير في السجن، هل استخدامه للهوية الإسرائيلية مشروع أم أنه خيانة لهويته العربية وشكل من أشكال التطبيع مع الاحتلال، طارحا سؤالا وواضعا أمامنا تساؤلا وماذا عن أبناء عرب الداخل الذين يحملون الهوية الزرقاء؟
كان خندقجي قاسيا جدا على نفسه وهويته وفلسطينيته عندما قال "القناع بالانكليزية Masq وبالعبرية مسخا، فأنا لم أرتد قناعا، أنا ارتديت مسخا، بل أنا هو المسخ الذي ولد من رحم النكبة، والأزقة والحيرة والغربة، والصمت صمت أبي وموت أمي، ومطاردتي في أزقة المخيم.. ولدت من رحم التهميش والتصنيف.. ولدتُ من مرآة أور شابيرا، فهل من رحم تلدني مرَّةً أخرى إنسانًا؟".
"قناع بلون السماء" يرصد الصراع الداخلي في نفوس الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، حيث يجدون أنفسهم مضطرين للتنازل عن جزء من هويتهم للبقاء والتأقلم مع الواقع القاسي، الذين يضطرون لقبوله في محاولة للبقاء على قيد الحياة "ليس ثمة معنى لاسم المخيم الفلسطيني إلا عندما ترتكب فيه مجزرة، ليصبح اسما من أسماء المآسي في تاريخ الانسانية، يصبح اسمه تل الزعتر أو صبرا أو شاتيلا أجنين أوالشاطئ".
يستعرض خندقجي في روايته التحديات النفسية والإجتماعية، التي يواجهها الفلسطينيون في سعيهم للحفاظ على هويتهم وتراثهم في ظل الإحتلال، لذلك جاءت الرواية مرآة للواقع الفلسطيني المعقد، تعكس تجربتهم وصراعاتهم الداخلية والخارجية بشكل متجسد وواقعي وتسلط الضوء على أهمية الهوية والانتماء في بناء الهوية الوطنية والثقافية، والتي تظهر في صفحات الرواية كقناع يحمل العديد من المعاني والصراعات، ومن ناحية أخرى تعبر عن التمرد والنضال من أجل الحرية والكرامة .