د. رائدة العامري
تتجلى الشخصية الأدبية في أنواع النصوص الأدبية بوصفها مفهوما سيميائيا دلالياً، ينهض على شبكة من الأفعال والصفات والأحوال بصورة تتلاءم مع الجنس الأدبي الذي تظهر فيه الشخصية، إذ تتداخل المرجعيات وتبتعد عن الأحادية في النظام السيميولوجي داخل عملية بناء الشخصية بمراحلها المتعددة، ما بين مرجعيات أسطورية وتاريخية وأخرى ثقافية واجتماعية وواقعية وطبيعية، وهي الأكثر وضوحا في النصوص الأدبية ذات الطابع الاجتماعي الرمزي، الذي يقوم على مقاربة الفضاء الاجتماعي بصورة أدبية تقترب من السخرية في سياق، وتعبر إلى طبقة الجد العالي في سياق آخر.
فالشخصية الأدبية لا تبقى أسيرة الدلالات التاريخية والاجتماعية التي تكون في الغالب مرتهنة بمكانة الشخصية ووظيفتها؛ وربما حتى طبقتها التي تنتمي إليها ضمن الإحالة السيميائية إلى علامة معيّنة ذات أثر في التشكيل النصي، بل تتجاوز ذلك نحو المرجعيات الرمزية الكامنة في أصل نظامها السيميولوجي، فاغلب العلامات تنشأ عن نظام (قانون) رمزي يتولى هذا القانون ترتيب الفعالية السيميائية للنص الأدبي، وتتجلى إحالاته في سلسلة من المكامن اللغوية الظاهرة والخفية في فضاء الشخصية الأدبية.
على نحو يجمع الوضع الداخلي مع الوضع الخارجي في تركيبة شخصية، التي تتدخل في صلب العمل الأدبي وتقوده نحو مسارات ذاتية وموضوعية تكشف عن استراتيجية الأديب وأطروحته المركزية.
تعبّر القصيدة الموسومة بـ "عائدون" عن حضور الضمير الجمعي الكامن في هذا المصدر المنسوب إلى عودة الفلسطينيين إلى أرضهم السليبة، وقد تحول هذا اللفظ "عائدون" في الثقافة الشعبية العربية إلى علامة لا تكفّ عن الحضور في الأغاني والأمثال والخطب والمقالات وكل شيء تقريباً، لذا فقد استثمرها مطر هنا كي تكون علامة على الخذلان والكذب والنفاق واستثمار القضية الفلسطينية استثمارا سيئاً، وعلى الرغم من أن إيقاع هذه اللفظة يتردد في ذهن وذاكرة كل عربي؛ غير إنها أصبحت بلا معنى، لا بل ربما أصبحت تعني العكس وتعبر عن اللا عودة في هذا المصير الملتبس والكاذب، وهنا يسعى الشاعر إلى تمثيل هذه العلاقة الشعرية في ضميرها الجمعي المخفي داخل هذه الصورة المظلمة، وتتجلى الرؤية الشعرية في الكشف الباطني عن طبيعة الشخصية العربية الجمعية المشغولة بالشعارات والكلام الفارغ على حساب الفعل والعمل:
هرم الناس وكانوا يرضعون،
عندما قال المغني عائدون،
يا فلسطين وما زال المغني يتغنى،
وملايين اللـحـون،
في فضاء الجرح تفنى،
واليتامى من يتامى يولدون،
يا فلسطين وأرباب النضال المدمنون
تحتشد القصيدة بمرارة لافتة وهي تركز على استحضار الشخصية بضميرها اللغوي والإنساني المريض، وتبدأ القصيدة من عتبة استعادة تاريخ الضمير الجمعي من بداية الانطلاق إلى مرحلة الهرم " هرم الناس وكانوا يرضعون،/عندما قال المغني عائدون"، فشخصية "الناس" الجمعية الكلية هي شخصية مطلقة لا تستثني أحداً وهي شخصية تبدأ من مرحلة الرضاعة "كانوا يرضعون" بترديد شعار "عائدون" على لسان شخصية "المغني"، وهي شخصية عامة تمثّل شخصية "الناس" الجمعية وتعبّر عن هويتهم في التفكير والممارسة، فتتحول "عائدون" إلى لفظ عام وجزء من المقول الشعبي الذي يتلفّظ به الجميع.
ثم ما تلبث أن تظهر فلسطين بوصفها هي المحور المركزي لهذه الدعوة التي تظهر على لسان شخصية المغني "يا فلسطين وما زال المغني يتغنى"، حيث تبقى العلامة "عائدون" ضاربة في عمق فضاء الشخصية الجمعية بلا فائدة تذكر "وملايين اللـحـون، في فضاء الجرح تفنى"، أي أنها تحولت إلى لحن لمجرد الأغنية وأفرغت من معناها تماماً، لأن ألحان "عائدون" تتعدد وتتنوع في يتسع الجرح الفلسطيني كي يفني في فضائه ملايين اللحون، ولا شيء يحدث على الأرض وفي فضاء الضمير الجمعي العربي.
تتردد كلمة "عائدون" بوصفها علامة تشير في مضمونها السيميائي الأصل إلى إصرار الضمير الجمعي العربي على إعادة الفلسطينيين المشرّدين إلى وطنهم السليب "فلسطين"، بينما اللفظة تحوّلت من هذا المعنى إلى صورة تصلح للغناء واللحن بوصفها صورة مجرّدة من دلالاتها الأصلية بعد أن تقلّدت دلالة أخرى ذات طبيعة أخرى تماماً، لأن هذه العودة المرتقبة للحق الفلسطيني الكامنة في لفظ "عائدون" لم تنتج سوى "واليتامى من يتامى يولدون"، في ضمير جمعي آخر تتناسل فيه صورة اليتامى عن يتامى آخرين في دائرة يُتُمٍ لا تنتهي وتكشف عن زيف الضمير الجمعي وكذبه.
يتردد الضمير الجمعي من خلال حضور صور الجمع الاسمي والفعلي التي تستغل اسم فلسطين من أجل مصالحها الذاتية الدنيئة "يا فلسطين وأرباب النضال المدمنون"، فهم ليسوا سوى أرباب نضال مدمنون على الكذب والزيف والادّعاء، فيتحول هذا الدّعاء الكاذب والمزيّف إلى أقوال لا أفعال لها "ساءهم ما يشهدون، فمضوا يستنكرون"، في وضع لا يتجاوزون فيه فضاء الاستنكار اللفظي؛ بينما يمارسون أبشع الممارسات المشينة على لذائذهم الرخيصة بعيداً عن العلامة المشحونة بالضمير الجمعي الفارغ من المعنى "ويخوضون النضالات على هزّ القناني/وعلى هزّ البطون، عائدون"، إذ تظهر العلامة هنا "عائدون" على هامش صورة شعرية تسقط في الدرك الأسفل من المعنى والقيمة والدلالة.
الأسلوب الساخر الذي يستخدمه الشاعر بهذه اللغة الشعرية البسيطة، هو استثمار حيوي وحي ومباشر لجدوى اللغة كي تسير مع قضايا الشعرية.