د. سمير الخليل
ازاء واقع مأزوم يحاصر شخصيّات بأبعاد سياسية واجتماعية وسايكولوجية، يقترب أسلوب الكاتب علي لفتة سعيد في رواية "باب الدّروازة" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد من قصدية التفكيك والتعرية والإدانة ويقدّم شخصيّات مأزومة وقلقة ومتشظيّة، وهي تبحث عن كينونتها ووجودها من دون جدوى وهي تعاني هزيمتها وتصارع إرثاً من الضياع والتمزّق والعجز.
ويتجلّى الصراع من خلال ثنائيات متضادة ومتناقضة مثل "الهامش والمركز" و "الماضي والحاضر" و "القوة والضعف" و "الحقيقة والزيف" و"الحلم والكابوس" من ضمن تداعيات مادّة استطاع أن يقدمها كمحتوى للمبنى الحكائي الذي اتّسم بالواقعية الاجتماعية وحدّة الصراع، وتنوّع الأمكنة، وصراع البيئات، والأفكار، ودوافع الفعل الإنساني بين الضياع والتشبّث، وعكست الرواية كثيراً من الحقائق والأزمات التي شهدها المجتمع العراقي على مدى عقود من التأزّم والتشظّي وسيادة القيم الكميّة على حساب القيم النوعيّة وغياب الحريّة وانتشار الزيف والترّدي بكل أشكاله وميادينه.
يضعنا خطاب الرواية ازاء هذا الصراع المتصاعد وتمركز اللّحظة الوجودية بدءاً من لوحة الغلاف التي تجسّد حيرة الإنسان وتلويحة الوجع واختزال هذه المشهدية ضمن ثنائية حادّة لخطوط اللونين الأبيض والأسود وهي إشارة سيميائية لطبيعة الصراع الثنائي القيمي الذي ارتكزت عليه الرواية وشكل العنوان "باب الدروازة" إشارة سيميائية منفتحة على أكثر من معنى وأكثر من بعد، فعلى مستوى البعد الواقعي فإنّه اشارة إلى مكان مقدّس يرتبط بضريح الامام موسى الكاظم الذي قسّم بناؤه إلى عدّة أبواب منها "باب المراد وباب القبلة... الخ"، و"الدروازة" معناه الباب المفتوح في اللّغة الفارسية وهذه الدلالة الضمنية المعبرة أي الانفتاح على كل ما هو متوقع وغير متوّقع ضمن تشابك الأحداث إلى جانب أن العنوان يكشف عن مركزية المكان، متمثلاً بمدينة الكاظمية التي تدور بها الاحداث بوصفها المكان الجاذب والمركزي للشخصيات القادمة من محافظات وأماكن أخرى وهي تمثّل الانحدار من المكان الهامش ووفق هذا التشابك تتشكّل معاني واحالات الصراع.
فالشخصيات عموماً تمتلك تاريخاً وخلفيّة متناقضة وهي تقوم بفعل اللجوء إلى هذا المكان بقصديّة اجتماعية ودينيّة وسيكولوجية للبحث عن الذات والبحث عن التطهير الطقسي والديني لذنوب وأخطاء متجذّرة، وشخصيات تبحث عن لقمة العيش وهو بحث طبقي، وهناك شخصيّات تبحث عن التمويه والاندماج وهي تحمل إرثاً سياسياً كشخصيّة "سعيد" بائع الثلج في باب الدروازة وهو زوج خالة الشخصية المحورية "خلاّوي" القادم من أعماق الجنوب من الناصرية ومن سوق الشيوخ تحديداً، وبذلك ترسم الرواية منحنيات الصراع القادم على الطرد والجذب بين الشخصيّات اللاجئة والمكان المفتوح أو باب الدروازة كاختزال لمدينة مكتظة بكل أنواع البشر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن القاع الاجتماعي ومن أماكن أخرى ليمثّل المكان ببعده الواقعي، أو الوجه الجغرافي الذي يحتضن هذه الشخصيات المتناقضة فالخان يشبه مدينة صغيرة أو عالماً مصغّراً يحتوي على الأسر والأفراد من مختلف التوّجهات الاجتماعية والطبقية والسياسيّة، ورمزية الخان تعني أن الشخصيات اللاجئة التي تتخذ منه مسكناً وملاذاً هي بالأساس مطاردة من واقعها ومن ماضيها وهي تبحث عن ملاذ آمن لها لتسوية وجودها واستئناف حياتها وسط ظروف متناقضة ومأزومة، وهي لا تملك سكناً ولا خياراً وإن أجواء "باب الدروازة" تمثّل الباب المفتوح بصيغته الدينيّة لاحتواء هذه الشخصيات المأزومة دينياً وسياسياً واجتماعياً.
ولعلّ الذنب أو المأزومية الدينية تتجلّى في شخصية "فتحية" التي فقدت بكارتها على يد ابن عمها وصديقه في أحد احياء الديوانية وجاءت مع أبيها الذي ترك أعمال الزراعة واستقرّ في الخان واضطر للعمل حمالاً في الشورجة فهناك ميل للتطهير الديني واللّجوء إلى المكان الذي يحتوي هذه المأزومية والبحث عن الايمان والتكفير عن الذنب، أما المأزومية السياسية فتتجلّى في شخصية "سعيد" بائع الثلج الذي يمثّل شخصية الشيوعي اليساري الذي كابد التعذيب والقمع والاقصاء على يد أزلام وزنازين النظام الدكتاتوري وهو يرمز إلى الطبقة المعارضة التي دفعت ثمناً تاريخياً فادحاً وعانت من الضياع ولم يجد ملاذاً سوى المكان المقدّس والآمن، يبتعد فيه عن خضم الأحداث ويلوذ في زاوية تمثّل له نوعاً من الأمان على الرغم من أنه يتخلّص من نزعة الاحتجاج والتهجّم حتى يصل إلى نزعة إلحادية كرد فعل لهذا النكوص والمكابدة التي عاناها بحدّة وقسوة، والمهنة لهذه الشخصية كبائع ثلج ترمز إلى "البرولتاريا" التي تكابد قمعاً مزدوجاً سياسياً وطبقياً واغتراباً مكانياً.
واستطاعت الرواية أن تعبّر عن مأزومية الواقع بكل أبعاده وقدّمت رؤية تحوّلية لهذا الارتكاس التاريخي.