أحمد عبد الحسين
لا أحد يمزح مثل “وودي آلن”. وحده يجبرك على الضحك والتفكير بعمقٍ في آن. وعباراته التي تبدو مرتجلة وابنة لحظتها مفكّرٌ بها مليّاً حتى ليبدو بعضها اقتباساً من كتاب فلسفيّ. إذا كان هناك فيلسوفٌ تقاعدَ وقرّرَ أن يكون كوميدياً فهو وودي آلن لا غيره.
قال مرة في ذروة تعاسته: “يا إلهي كم كنتُ سأكونُ سعيداً لو أنني سعيد”.
بعد أن ينتهي الضحكُ نفكّر: نحن لسنا سعداء. لذلك نطلب السعادة. لكننا نطلبها لا لاستثمارها أو التصرّف بها أو صرفها بلْ نريدها لنكون سعداء، أي أننا نرغب بها لمجرد ذاتها، نريدها للهرب من الحال التي جعلتنا نطلبها يائسين.
السعادة مطلوبة أبداً لأنها قليلةٌ ومجالُ حضورها لا يكاد يُرى. إنها الوضعية التي تحدث عنها شوبنهور: “ كلّ حياتنا تتأرجح، مثل البندول، يسرة ويمنة، من المعاناة إلى الملل. أتألم عندما أرغب في ما لا أملكه، لأني أعاني هذا النقص المتمثل في عدم قدرتي على التملّك؛ لكني سرعان ما أغرق في الملل لأنني امتلكتُ ما لم أعدْ أرغبُ فيه”.
من المعاناة إلى الملل نتأرجح من دون المرور بالسعادة التي نظل نطلبها سواء أكنا في الملل أو في المعاناة.
خيبةُ الأمل راكزة هنا وهناك، في معاناة العاطل عن العمل باحثاً عنه؛ كما في ملل العامل الضَجِر منه. في حسرة من يريدُ شيئاً ما بألمٍ وفي خيبة أمل من شبع منه. في الضعيف الخائف من الخسارة وفي ما أسماه دريدا “كآبة المنتصر”. في كلّ ذلك لا نمرّ بالسعادة إلا مروراً عابراً بحيث لا نكاد نلحظها أو نتمتع بها. نحن لا نمكث في السعادة لنكون سعيدين كما كان يؤمّل وودي آلن.
لكنْ ماذا لو كانت السعادة غائبة عنّا لأننا لا ننفكّ عن طلبها، ماذا لو تخلّينا عن الأمل بها؟
إذا رجع الإنسان إلى نفسه سيجد أنّ لحظات الهناءة التي عاشها هي ليست سوى تلك اللحظات التي لم يعد يطلب فيها شيئاً، تلك الآنات الصغيرة القابلة لأن تكون طويلة ممتدة إذا وسّعناها بعدم الرغبة في شيء. أنْ لا تندم على ما فات ولا تأمل في ما سيأتي. لأنّنا بخبرة التجارب الكثيرة تعلمنا أن ما نتوقعه يفسد ما نملكه.
عرف الروحانيون والعارفون من كلّ الأديان أن السعادة هدف لكنه يتحقق فقط وفقط في التخلي عن طلبه وعدم مطاردته.
تستوقفني آية قرآنية تشعّ حبوراً: “لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم..”. هناك مثقال من اللامبالاة وعدم التأسي يجب أبداؤه تجاه الماضي، يقابله مثقال يأس يجب أن نتهيأ به لما سيأتي. كفيلان بجعل اللحظة الحاضرة لحظة سعادة. فبمقدار اعترافنا بقليل من اللامبالاة واليأس نكون في الحاضر لا في الفائت الذي لن يتغير فهو على جمود حجر، ولا في المقبل الذي لا يُمسَك فهو إلى السراب أقرب.
السعادة لا تُطلب. هي تحضر بين يدي من لا يطلبُها.