قصائد مختارة من غابرييلا ميسترال

ثقافة 2024/06/05
...



جاكلين سلام




  فقط الجاهل/ة الذي لا يحترم الإنسانيَّة ولا الآداب العربيَّة والعالميَّة يقول لي ولك: لماذا الشعر؟ أو أنا أكره الشعر والشعراء، فهو بضاعة كاسدة. وأعتقد أنَّ العالم غرق في الحماقات والحروب لأنَّ قادة الشعوب لا يقرؤون شعراً وأدباً، تلك الديناصورات التي تبيع وتشتري صفقات الأسلحة الباهرة، بينما أفراد الشعب جياع وضحايا. ولكن سيكون هناك دوماً عشاق استثناء، يمارسون الشعر ويترجمونه ولا يصل إليهم مردود مادي مقابل موهبتهم ووقتهم.


زارني صديق منذ 25 سنة وفي يده هدية لي، عبارة عن نسخة مصورة لديوان قصائد مختارة للشاعرة غابرييلا ميسترال. لم أكن قد قرأت لها من قبل. قال: هذه الشاعرة ستعجبك وسنتكلم عنها في لقاء آخر بعد أن تقرئيها.


 أنا أثمّن الهدايا الشعرية وخاصة في الفترة التي كنت ألتقط الكتاب العربي بشوق في سنوات الهجرة الأولى. 

غادر الشاعر الصديق كندا عائداً إلى بلاده إلى غير رجعة وصار له شأن وحضور هناك. وكلما قرأت غابرييلا ميسترال، أبتسم وأقول لنفسي: إنها شاعرة وأحبها.

غابرييلا ميسترال قصائد مختارة، ديوان من إصدار دار المدى، عام 1998 سورية وترجمة الشاعر العراقي المترجم الراحل حسب الشيخ جعفر الذي مرت ذكرى رحيله في شهر أيار/ مايو. 

يحمل الديوان 48 قصيدة. وصدر لها روايات وشعر نذكر منها “يأس” ورواية “تدفق رفيقاً أيها النهر”.


*

غابرييلا ميسترال وبعض جوانب شعرها

وُلدت الشاعرة غابرييلا ميسترال في تشيلي عام 1889 ورحلت عام 1965

نالت جائزة نوبل للآداب عام 1945. عاشت حياتها في فقر مدقع ويقال إنها نالت مرة جائزة تقديرية ولكنها لم تستطع الحضور لتسلم الجائزة لأنها لم تكن تملك ثوباً مناسباً. 

عملت معلمة في مدرسة، وعانت شقاء الحياة بكل ألوانه. كان الشاعر بابلو نيرودا أحد تلاميذها في الصف والذي فاز أيضا بجائزة نوبل عام 1971. يقال إنها أخفته في بيتها حين كان ملاحقاً (كما يشير المترجم في مقدمة الكتاب). كانت الشاعرة من أنصار حرية الرأي والتعبير وتنشر كتاباتها في الصحف المحلية بتخوف ثم انتشر صوتها وصيتها خارج البلاد. عينت كقنصل في تشيلي بعد تلك المسيرة الشاقة والمعطاء.

*

الشاعرة غابرييلا ميسترال، أمومة خصبة بلا إنجاب، عاشقة حتى آخر عمرها لرجل وحيد مات منتحرا في ظروف غامضة، خصوبة روحية تلد الحياة شعرا من عالم الأشياء بحسية عميقة، حملت رؤية امرأة مرهفة ومثقفة، يختلط في كتابها عشق الحياة مع الأسى والقلق الوجودي.

أنجبت قصائد وفي قصائدها أنجبت أطفالاً، رجالاً، أحلاماً ورؤى تخالها أعمق من الواقع وهذا ما سنراه في قصائدها وكلماتها خصبا وعميقا. كانت خلاقة في وحدتها، متقدة برغبات الصانعة الحازقة والجزلة، تسخر واقع الحياة والطبيعة لصنع منمنمات شعرية كاشفة للحقائق، مكسبة إياها أبعادا وتجليات شاهقة.


الشاعرة والآخر: إنَّ الدخول في عالم قصائدها يقودنا إلى أنَّ الآخر في حياتها هو الغياب. ذلك الغياب الذي يترجل ويتنقل متخذاً أشكالاً وتجليات شتى حتى نكاد نلمسه، نحاكي ألوانه بعيوننا، نشتم رائحته خصبا وقويا.

غياب الطفل وغياب الحبيب، غياب العالم الجميل الناصع له مقام في نصوصها، وهي الشاعرة التي لم تنجب ولم تتزوج ولكننا نلمس في قصائدها أطفالاً بحجم الروح الإلهية. وذلك الغياب الذي يرهقها حيناً ويهدهد أفراحها وأوجاعها حيناً آخر حتى يستحيل العالم طفلاً تعيد ولادته بشغف القصيدة وحنكتها. 

إنها الشاعرة التي تعاونت مع روحها ورؤاها وفكرها كي تسلخ عن جدران الروح والجسد أنشوطة العدم. 

احتضنت في فراغها عوالم متناغمة وحزينة ومترنحة، تغص بما ينقص وما يجرح وما يرفع الأمل خطوة إلى الأعلى. 

ارتمت في حضن الطبيعة الأم، فصارت أماً تحنو وتغضب، تبكي وتشاكس ويبقى حضورها وكلماتها واقعاً أسمى يتداخل في شرايين الحياة نبضاً نبضاً.


من هذا العالم المصطخب بكل الألوان تقطف بلمسات حاذقة وراعفة الجمال الكامن في الأشياء تلتقط اليومي والعادي من مفردات ومشاهد الحياة وتفصل منها ثوباً للقصيدة.


***


 أتوقف عند هذه القصائد:


في قصيدة 


وانا أهز المهد


 البحر يؤرجح الملايين 

من أمواجه متناغما 

وأنا، مصغية إلى هدهدة البحر، 

أهز طفلي .

الريح رفيقة القمح 

 تؤرجحه بلطف 

وأنا أصغي إلى هدهدة الريح 

أهز طفلي.

الله يؤرجح الملايين 

 من عوالمه في هدوء 

وأنا مصغية إلى الله، 

أهز طفلي.

الله يؤرجح الملايين 

من عوالمه في هدوء 

وأنا أضمك إلى صدري 

فما أنا بوحيدة. – ص 20

ونلمح هنا قدرة الخلق المتخيلة في القصيدة تتجلى بطفل تحتضنه الشاعرة في عزلتها متماهية في الكون/ البحر/ الريح/ القمح/ الله/ الطفل....

*** 


وفي قصيدة “أرق” تكتب مراحل من حياة الشاعرة المتأرجحة بين فقر وعوز وبين الراحة واليسر: 


شحاذة كنت.. مليكة أنا اليوم

 وها أنا أرتجف بلا توقف، 

 وأتساءل طوال الطريق، 

ألم تزل معي؟ ألن تذهب؟

أريد أن أبتسم في الطرقات كلها

 وأثق بالناس جميعاً ما دمت قد جئت إلي. 

غير أنني تعلمت أن أخاف حتى في أحلامي 

وأتساءل: أأنت هنا؟ 

ألن تذهب؟


وحيث نرى في السؤال ما هو أقوى من استجداء حضور الرجل الحبيب وما هو أعمق من محض رغبة تخضع لانزياح حسي. ويقال إنَّ الشاعرة لم يكن لديها ثوب مناسب كي تذهب لتسلّم جائزة نوبل وحضور احتفال الأكاديمية السويدية بالشعر والشاعرة. أنا لا أستخدم كلمة كبير وكبيرة في وصف صاحب الصنيع الإبداعي، فالنص يشهد على مقام صاحبته (هي/ هو) 

*


وفي قصيدتها “سأغني النشيد الذي كنت تحبه”

تقول:

سأغني ذلك النشيد الذي أحببته... 

كي تقترب وتصغي، 

كي تتذكر تلك الحياة- كانت حياتك أنت 

سأغني كل غسق.. يا ظلا لي.

لا أريد أن أصمت 

فكيف ستجدني بلا صرخة مني؟ 

وأي شيء ينبئك عني أكثر صدقا منها؟ ما زلت أذكر تلك التي كنتها قديما 

ما أنا بالمنسية أو الضائعة

....

...

وكم شاهق هذا الإصرار على مواجهة الحياة بصفع ذاكرة الموت... وبتجاوز الذات الشخصية لتحل محلها الذات الشاعرة بلا وجل محلقة في فضاء الكلمة المجرد إلى حيث المطلق. شيء ما في روحانيتها يذكرني أيضا بالشاعرة الإيرانية التي توفيت باكراً “فروخ فرج زاد” حيث المعابر الروحية ترتقي بإحداثيات الكتابة إلى أعماق الفكر وإلى سماء الشعرية المنقاة المصفاة المقطرة كدمع وأحجار كريمة تسبح في محبرة كونية لا تعرف الموت والجفاف بل تتجدد بكل قراءة.

*

في قصيدة أنشودة النجمة 

 “ قلبي. أنا أبهج العالم كله بأشعتي، 

ولم يعد ضوئي غير دموع.”........

...

وتتعالى رغبتها في تحطيم هذا الطغيان الأسود من العالم في تصوير مدهش من خلال قصيدة “أبواب” التي في آخر الديوان ومنها: 


أبواب هي قشريات مكتئبة 

لا مد يأتيها، وبلا رمال 

أبواب هي سحابة قاتمة عاصفة 

فوق أرض سعيدة، كبيرة 

آخذة في استقامتها هيئة موت لا مفر منه 

وأنا أنحني أمامها 

كقصبة مرتجفة في الريح.

...

....

في النور الأبدي كما في الحياة 

سيكونون لطفاء معي وسننشد معاً 

أغنيتنا بين الأرض والسماء.

وكالريح بأغنيتنا هذه 

سنرج الأبواب باباً بعد باب 

وسيخرج البشر إلى عالم مفتوح 

كالأطفال المستيقظين 

وقد سمعوا كيف تتساقط الأبواب الحاقدة 

منهارة فوق العالم كله.


هنا وكما في قصائد أخرى كثيرة تسخّر الشاعرة مقدرتها المذهلة الرقيقة لتكتب شعرية الأشياء وعناصر الطبيعة متناغمة مع الروح، كالشوكة، السنبلة، الأبواب، الغيمة، الآنية الفخارية الجماد والصخب للانطلاق إلى قلب الحياة والأمل والغد. 


حين يهدي الشاعر أشعار غيره لصديقة تهتم بالشعر، يختلف كثيراً عمن يهدي منفضة سجائر زجاجة عطر. وبتصوري ومع مرور الوقت لا يفقد هذا الشعر نضارته وشبابه وأثره وجدواه وجوهره. فقط يحتاج إلى وعي يفتح الباب إلى حقول الجمال الأبدية التي جوهرها الإنسانية.