تاريخية النصّ البَصَريّ

ثقافة 2024/06/05
...

علي رشيد

تغيّرت مفاهيم الجمال في الفن، وكذلك نظم الاستقبال والتلقي عبر التاريخ . 

 منذ مطلع القرن الماضي. جاء هذا نتيجة لمفاهيم وتجارب أسهمت في تحويل محيط الفنان وبيئته بكلّ عناصرها وخاماتها إلى عمل فني. استخلاصاً لتحوّل الحياة اليومية ببعدها الدلالي والرمزي إلى مرآة للذات. كان “دوشاب” سباقاً لرسم هذا المسار في التعامل مع الخامة؛ إذ أسهم في تفعيل هذا المنحى، وتبعه آخرون مثل جاسبر جونز وروشنبرغ وكوسوف وغيرهم.


أما “جوزيف بويز” فقد ذهب إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى أن الفن ليس حكراً على أشخاص بعينهم، بل يمكن لكلّ فرد أن يمارس الفن، وأن داخل كلّ إنسان فنان، لاسيّما أن  الفن والحياة يمتلكان الطاقة الروحية نفسها في تجاوز النسبي، والآني والعبور به نحو القادم كما أشار الكاتب ثروت عكاشة في كتابه  “الفن والحياة “. ما أذكره هنا ليس سراً أو غموضاً؛ فالجميع يعرف ذلك، بل كان نتاج هذه الرؤى فناً عظيماً ليست له حدود في تعبيره الدلالي والفكري. فن يثير أسئلة ويفتح حواراً يتجدد عبر الزمن ومتغيراته. فن نقف إزاءه بكامل دهشتنا، فن خلّد لنا أسماء كبيرة تركوا لعالمنا إرثاً فاعلاً ومتواصلاً ولأزمنة قادمة.

  يبقى السؤال الأهم عن حدود قراءة العمل الفني، وقدرة التلقي لدى الآخر؟. نشير هنا إلى وعي المتلقي، وإمكانيته على تحرير العمل من نمطيّته، والدلالة من جمودها. المتلقي الذي يتبادل “الأنا” مع الفنان داخل النص البصري، فيوسع  حدود النص ومداركه، ويعيد تشكيل العلامات لتحرير القراءة من سكونها. قراءة تتغيّر مع تغيّر الزمن داخل العمل. قراءة متحررة من الحقيقة الثابتة، والتأويل المحدّد في فهم ما هو ظاهر للعيان في النص، أو ما هو غائب عنه.

 بهذا المفهوم تشير الكاتبة سيزا قاسم في كتابها “السيميوطيقا” إلى خاصية العلامات في الفن: “فبينما تكون العلامات خارج الفن علامات عامة محددة بارتباطها بمشار إليه بعينه، فإن العلامة في إطار الفن لا تخضع لمثل هذا التحديد، من هنا تأتي المرونة الدلالية في إطار الفن وقابلية العلامة لأن تصلح للإشارة إلى أكثر من مشار إليه واحد”. 

تبقى فكرة تاريخية النص البصري ونكوصه مع ذات الفنان، والمتلقي معاً مهمة، بل هي المفتاح الذي يمكننا من خلاله الولوج إلى فهم التجارب البصرية المهمة المتعدِّدة التي أطاحت بالتلقي الساكن للفن، وعبرت به إلى التلقي الموازي بقيمته، وحراكه قيمة العمل نفسه. إن النظر إلى العمل الفني  بوصفه سيرة ذاتية أو مضافة من الضروري استحضارها في التلقي عند النظر  إلى عمل أي فنان، سواء كان معاصراً مفاهيمياً، أو فناناً من عصر النهضة كدافنشي. 

سقت هذه المقدمة للولوج إلى تقديم بعض التجارب المهمة التي سار خطا الفن والحياة لديها بالتوازي، بل كان فعل الفن امتداداً لفعل الحياة، وانعكاساً لها.

جرار “أي وي وي” التي شغلت العالم

تمثل أعمال الفنان الصيني Ai Weiwei التي توصف بالمستفزة خلافاً بين من يجد في تجربته موقفاً سياسياً من القمع الذي تمارسه السلطات التي تتفرد بالحكم وتفرض أيديولجيتها على شعوبها بالقسر مما يقود إلى مصادرة حقوق الإنسان، وتقييد الحريات الشخصية، وبين مناهضيه ممن يرون فنه دعائياً يحاول لفت الانتباه لشخص الفنان من خلال أعماله التي تصدم مشاعر بعضهم وبشكل كبير.

يبدو عمل جرة سلالة هان عملاً رائعاً بسبب كمِّ الإشارات التي يحملها بين السطور، هو نوع من الجدل، ومحاكمة لحقبة من تاريخ الصين كانت عودة آي ويوي إلى الصين بعد أن عاش في مدينة نيويورك لأكثر من عقد من الزمان في 1981-1993 بمثابة بداية لنوع جديد من الفن، إذ خصص بعض أعماله لموضوعات التحول والتدمير. شرع في جمع السفن القديمة بهدف تحويلها إلى قطع فنية معاصرة. رأى بعض الناس أن هذا العمل هو وسيلة للتعامل مع أعمال الفنانين القدماء، لكن بعضهم قد جادل في أنه كان يسيء استخدام عمل الفنانين دون موافقتهم ولهذا تبعات قانونية.

من منطلق الصدمة، جاء عمله التدميري المتمثل بثلاث صور باللونين الأسود والأبيض كبيرة الحجم تظهر مراحل إسقاط جرة ثمينة من سلالة الهان عمرها 2000 عام عمداً من بين يديه. من الطبيعي أن يثير هذا العمل استياء الناس وصدمتهم، بل وصفه بعضهم باللامسؤولية وعدم احترامه لقيمة المصنفات والقطع الأثرية التاريخية. هل كان هذا الوصف لعمل وسلوك الفنان صحيحاً؟ 

في الصور لا تبدو على وجه الفنان “اي وي وي” أي تعابير حتى يخيل لبعضهم أنه ينظر بازدراء لهذا التاريخ. لكن هذه ليست الحقيقة.نعم، كان يريد أن يشير إلى فكرة الازدراء من التاريخ، والدعوة لحمايته مما قد يسيء له، لاسيّما مع القمع الفكري، وتهميش الفن، وقتل روح الابتكار الذي ساد مرحلة الثورة الثقافية في الصين ودعوة المثقفين للخضوع لمبادئها، وروحها بوصفها منطلقاً وحيداً لأي نتاج ثقافي، أو معرفي.


 “دعا الرئيس ماو الشباب بعد الإعلان عن ثورته الثقافية عام 1966 إلى أن يقوموا بالانقلاب على الزعامة الشيوعية في البلاد. واستجاب لدعوته ألوف الشباب الذين عُرفوا فيما بعد باسم الحرس الأحمر. وغرقت الصين في الفوضى التي راح ضحيتها مئات الألوف، وجرى تعذيب الملايين، وتخريب جانب كبير من تراث الصين الثقافي. وبنهاية عام 1968 كانت الثورة الثقافية قد جعلت الصين على شفا الحرب الأهلية “

أراد “أي وي وي” الإشارة من خلال عمله هذا إلى ما قامت به الثورة الثقافية من خراب متعمد لتراث الصين. برغم أن العمل سيثير حفيظة الناس وحنقهم من فعلته التي توجع العواطف؛ لأن الجرار كانت تعدّ شكلاً من أشكال الإرث وثقافة الحفاظ على التراث، لاسيّما أنه أسقطها عمداً. إلا أن الصدمة التي راهن عليها سيكون تفاعلها مع الحدث أكبر بمئات المرات من قراءة نصوص عن الواقعة “الثورة الثقافية” وفعلها التدميري للفن والتاريخ خلال مرحلة الثورة. “إذا كان كسر جرة واحدة أثار كل هذا الغضب والوجع؛ كيف يمكن النظر حيال تخريب تراث بكامله”؟ مقابل صور كسر الجرة وضع الفنان جراراً على الأرض واستخدم أصباغاً رديئة لتلوينها، وهي الإشارة نفسها لقيمة التراِث ورداءة الثورة. تبدو أعمال أي وي وي استنساخاً للأفعال التي يقف ضدها في الواقع؛ فهي تحمل سلبيتها بوصفها تناصّاً من سلبية الواقع أو الحدث الذي تريد الإشارة إليه؛  كما لو أنه يقدم عملاً مسرحياً لمواقف تاريخية، ومعاصرة.

لا يحيد عمله “بذور حبات الشمس” في معرض تيت مودرن 2010 عن هذا السياق. يمثل العمل سجادة من مئة مليون بذرة عباد الشمس مصنوعة من مادة البورسلان، اشتغل عليها مدة سنتين ونصف 1600 شخص من قرية يعتاش أفرادها على صناعة السيراميك، استخدمهم “أي وي وي” لتنفيذ هذه البذور. كان عدد البذور بقسمة بذرة واحدة لكل ثلاثة عشر صينياً. رافق العمل فيديو بثيمة The use of people  لمراحل عمل الناس على مشروعه هذا، حيث أشار فيه إلى صعوبة العمل ومشقَّته. هدف “أي وي وي” من وراء عمله هذا  منح فرصة عمل لأفراد هذه القرية؛ إذ كان عملهم يعاني من الكساد، بل منحهم أجوراً مضاعفة. في الوقت نفسه حاكى فلمه “الفيديو” ما تقوم به السلطة الصينية من دفع الناس إلى العمل بظروف صعبة وشاقة. 

انشغل “أي وي وي” بالمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، بل باللاجئين السوريين وعذاباتهم بشكل خاص، وزار معسكرات اللجوء وتحدث عن ظروفها اللاإنسانية. ولذلك جاءت صورته التي حاكى فيها الطفل السوري إيلان الذي رمت الأمواج جثته إلى الساحل لتثير الجدل، فعلى الرغم من الصورة جاءت عفوية بعد أن طلب منه المصور والصحفي Rohit” Chawla” الذي التقطها له ونشرها في مجلةً india today””بوصفها جزءاً من مقال عن الفنان “تذكيرنا بالإنقاذ الذي لا نقدِّمه” إلا أن سهام النقد ممن يناهضوه كانت قاسية؛ إذ أطلق الفنان النيوريوكي “شون كابوني/ “Sean Capone على الصورة اسم “ضحية إباحية”، كذلك فعل المصور الهولندي “/Henk Widschut هينك وايلدشوت” الذي كتب “الصورة سهلة للغاية ولا تثير المشاعر التي تخفيها صورة الصبي الميت، لقد تعبت من إساءة استخدام هذه الصورة في كل مكان. لم أكن أتوقع منه ذلك. هو ليس الوحيد الذي استخدم الصورة”. كل هذا لم يثنِ الفنان عن المضي قدماً في مشروعه هذا، فقد استقل قارباً مطاطياً وبقي فيه ساعات وحيداً وسط البحر من دون ماء للشرب ليشير إلى المخاطر التي يتعرض لها المهاجرون. أعتقد أن النظر إلى نتاج أي فنان دون النظر لتاريخه الشخصي يشكل نظرة مبتسرة وقاصرة في قراءة عمله. ولهذا يبدو الحكم على أعمال الفنان الصيني “أي وي وي” حكماً شاحباً دون معرفة تاريخ هذا الفنان ومواقفه. 

عرف “أي وي وي” في مسيرته بكونه ناقداً للسلطات الصينية، إلا أن مشكلاته زادت حدَّتها مع زلزال سيشوان في 2008 الذي أسفر عن انهيار أعداد كبيرة من المدارس ومقتل آلاف التلاميذ، وحاولت الحكومة إخفاء حجم الكارثة لأنه وبسبب الفساد المستشري في البلاد كانت الكثير من هذه المدارس مبنية من الطابوق الجيري الرخيص  وكانت تسمى “بمدارس حثالة التوفو”. وجاء رد فعل “أي وي وي” بإنشاء جدارية تتألف من 9000 حقيبة ظهر لأطفال المدارس وعمل آخر باسم “ستريت” يتألف من مئات قضبان الحديد المسلَّح الذي جمع من الأنقاض، كما نشر أسماء 5000 من تلاميذ المدارس الذين ماتوا في الزلزال. وفي تداعيات هذه الأحداث قامت الحكومة بإغلاق مدوَّنته وجرى ضربه بعنف شديد، ونُقل إلى المستشفى على إثر إصابة في الرأس أدَّت لنزيف دماغي، ولزيادة مضايقته قامت السلطات بهدم الاستوديو الخاص به في شنغهاي بحجة البناء دون ترخيص، وتم سجنه والتحقيق معه بتهم تتعلق بحيازة مواد إباحية وتعدد الزوجات والتهرب من الضرائب ومع ذلك لم تتم إدانته بأي جريمة. أُلقي القبض عليه مرة من قبل الشرطة في الثالثة فجراً لأنه أراد الشهادة في المحكمة بقضية الناشط tan zuoren”” ولمنعه وضع في زنزانة منفردة، وتم ضربه بضراوة حتى سبب له الضرب كدمات دموية في جسده. واعتراضاً على هذا قام الفنان بحلق شعره من جهة واحدة. كانت هذه الإجراءات القانونية وراء رفض وزارة الداخلية البريطانية منح “أي وي وي” تأشيرة لدخول بريطانيا، بحجة أنه لم يصرِّح عن عدم وجود أدلة جنائية ضده.

عاش  الفنان “أي وي وي” طفولة مضطربة فقد كانت محكومة بالخوف وفقدان الأمان وعدم الاستقرار الذي سيصبح ملازماً لحياته. فقد نشأ في جو معارض للسلطة، كانت معارضته امتداداً لتاريخ طويل لمعارضة عائلته لاسيّما والده. فحين سألته الناقدة sarah” thornton”: من هو الفنان؟ سحب “أي وي وي” نفساً عميقاً وأجاب: كان أبي فناناً درس الفن في باريس وحين عاد للصين أودع السجن ثلاث سنوات بتهمة تأييده لماو، وهناك بدأ بكتابة الشعر. وحين بدأ ماو ثورته الثقافية كتب أبي نصاً عن حدائق فيها زهرة واحدة ولون واحد، فاتُّهم باليمينة ونفي إلى معسكر بعيد وضع فيه مع من أسمتهم السلطة “أعداء البلاد”. كان هو نفسه، في طفولته، ينظر لأبيه وقتها بسبب البروبوغندا على أنه عدو للبلاد، وقتها اختفى أكثر من مئة وخمسين ألف مثقف وكاتب وفنان. في منفاه حرق والده كل قصائده ونصوصه وأعماله الفنية؛ خوفاً من مداهمة رجال الأمن لمكان المعيشة داخل الكامب. عاش مع عائلته حياة صعبة. فقد أجبر والده على تنظيف المراحيض العامة مما جعل أسرته منبوذة اجتماعياً يلازمها الفقر. حتى أنه عاش في إحدى مراحل حياته في بيتٍ عبارة عن حفرة في باطن الأرض حيث تعلم “أي وي وي” الشاب آنذاك صنع القرميد من التراب الذي كان يملأ المكان. تعرض الطفل “أي وي وي” للضرب والإهانة، ورمى الناس بيتهم بالحجارة لأنه وعائلته كانوا بنظر الآخرين أعداءً للبلاد. وعلى الرغم من رد الاعتبار لوالده لاحقاً إلا أن هذه التجربة تركت في نفس “أي وي وي” مشاعر قاتمة تجاه نظام بلاده. 

تأثر “أي وي وي” بدوشامب، وأولى الميديا واستخداماتها اهتماماً كبيراً لأنه وجد فيها منفذاً كبيراً لإيصال صوته الذي كان يحاصر بالقمع.

صورة “اي وي وي” بـ “تيشرت” ماروني غامق، وسترته السوداء، وسرواله الأزق القطني مع لحيته الرصاصية الكثَّة صورة مغايرة لمشهد الرجل الصيني. كان يُنظر إليه من قبل الصينيين باستغراب فهيأته تعطي انطباعاً عنه بصفته رجلاً حكيماً كونفوشيرسيا أو كما لو أنه فيديل كاسترو. بهذه الهيأة قدم قراءة في مدينة كاليفورنيا بدعوة من البرفيسور أكبر عباس. دارت محاضرته عن الحياة والفن مع السلطة في الصين، لكنه توقف عن القراءة واقترح أن يفتح نقاشاً مع الجمهور عن حقوق الإنسان والحريات. ولقد شكل هذا التوقف صدمة للجمهور، لكنها صدمة ارتبطت بهذا الفنان الذي يرمي كل مرة بأحجار كبيرة في بركة الفن الراكدة.