{تشريح السقوط} يشرح العلاقة الزوجيَّة

ثقافة 2024/06/05
...

وداد سلوم   



منذ بداية الفيلم يشعر المشاهد بحالة من التشنج بين الزوجين، برغم أن الزوج لا يظهر لكنه يقتحم المشهد فجأة، إذ يقوم بتشغيل الموسيقى بصوت مرتفع يشوش على اللقاء الذي تجريه مع زوجته طالبة جامعية تعمل على بحث عن حياتها، فالزوجة كاتبة مرموقة ومترجمة، أما هو فدكتور جامعي. ينتهي اللقاء دون أن تستطيعا إكماله بسبب الموسيقى. يعطينا ذلك فكرة واضحة عن طريقة تعاطي الزوج مع نجاح زوجته وتميزها، ويقود المشاهد إلى إحساس بالتشويق والتوجس، يكتمل ذلك ويسيطر على المشاهد بعد المشهد الأول، إذ يكتشف الطفل جثة والده على الثلج خارج المنزل بينما كان عائداً من نزهته مع الكلب، ويبدأ بالصراخ، وطبعاً لن يسمعه سوى والدته، فالعائلة تسكن بيتاً جبلياً بعيداً يحيط به الثلج من كل جانب، وقد انتقلت إليه لتوفير المصاريف التي باتت غير مقدور عليها مع تردي عمل الزوج. يحضر الإسعاف والشرطة التي توجه فوراً أصابع الاتهام للزوجة مفترضة قيامها برميه من العلية إلى الأسفل.

بعد التحقيق تبدأ المحكمة بتشريح سقوط الجثة من الأعلى، للتأكد هل سقط الزوج مدفوعاً بعامل خارجي، أي هناك جريمة وقعت، أو هو سقوط بدافع ذاتي أي انتحار؟ وذلك بسبب وجود بقع من الدم على الجدار المقابل. لتنتقل المحكمة من تشريح سقوط الجثة إلى تشريح العلاقة الزوجية بين المتهمة والقتيل وسقوط العلاقة العاطفية بينهما وموتها، فيبدو العنوان مزدوجاً يوازي بين الحالتين، ولم تكن وفاة الزوج والتحقيق بها سوى بوابة للفيلم للوقوف على العلاقة الزوجية المتدهورة والأزمة التي يعيشها الأزواج في العالم المتحضر، بعد سنوات من الانضواء في مؤسسة الزواج، تحت ثقل الأعباء مع الزمن والمشاكل المادية وتآكل الحياة الخاصة للأفراد، فيبدو أن نجاح طرف كان على حساب الطرف الآخر، مما يجعل العلاقة العاطفية تعاني البرود والهجر، وما يجره ذلك من خيانة أو اكتئاب يعيشه الإنسان على المستوى الذاتي، ويعمق اغترابه في علاقته بالآخرين. 

 كانت بداية التوتر بين الزوجين عقب حادث تسبب لطفلهما بأذى في العصب البصري، الذي أثر في رؤيته مدى الحياة. عرض ذلك علاقتهما إلى رض قوي، فشعور الأب بالذنب لم يتوقف، وإحساسه بأن لوم الأم مستمر رغم مضي الزمن، ولهذا استمرت العلاقة بالتدهور والتسمم، وهذا ما جعلنا في حيرة هل هناك جريمة؟.  

شكل هذا الشك ونفيه من قبل الدفاع الذي قامت به الزوجة ومحاميها، عنصر التشويق الأكبر إضافة إلى تحليل حيثيات عملية السقوط.

لكن اللغة كانت عائقاً أمام الزوجة في التعبير عن علاقتهما العاطفية أثناء الدفاع عن نفسها، وخاصة حين الحديث عن اللحظات الإشكالية والصدامية بينهما، وتحليلها لحالة الزوج النفسية، فاللغة عامل حاسم لتوخي الدقة وللتواصل العاطفي والتعبير عن الشجون والعواطف.

قامت بدور الزوجة الممثلة ساندرا هولر، وبأداء عال جعلت حافة الترقب عند المشاهد تبلغ ذروتها من دون أن تشفى بإجابة، وهذا ما جعل السيناريو يأخذ السعفة الذهبية للأوسكار هذا العام. وقد قالت الكاتبة المخرجة إنها استغرقت بكتابته أربع سنوات، فالعناية التي كتب بها تحافظ على بقاء المشاهد مشدوداً طوال الفيلم ومتفاعلاً، بحيث يصله الصوت الذي ينتقل إلى المفاهيم العامة للعلاقة بين أي زوجين ونقاط الخلل فيها، فهو يرصد اختلاف طريقة التعاطي مع الأمور الحياتية بينهما، فالزوجة تتعامل باستقلالية ورؤية خاصة تنسجم مع طبيعة عملها ومكانتها وتتصالح فيها مع الواقع وتعزله، بل تتجاوزه حفاظاً على استمرارها في عملها، بينما الزوج يشعر بالغيرة من تقدمها رغم كل شيء واتزانها الموضوعي. لم تكن غيرة الزوج نابعة فقط من نجاح زوجته على الصعيد العملي، إذ يتهمها بسرقة فكرة من مشروع روايته غير المنجزة بسبب تمكن عقدة الذنب منه وتعثر عمله في الجامعة، بل تمتد الغيرة أيضا على صعيد العلاقة الحميمة، فنرى أنه دائم التذكير لها بخيانتها له بعد حادثة ابنهما، حين أقامت علاقة مع امرأة نوعاً من الهروب، لكن الزوج لا ينفك يتذكر ذلك وينعتها بالخائنة، نوعاً من رد الاعتبار لنفسه. تصلنا وجهة نظر الزوج من خلال تسجيلات صوتية للحوارات بينه وبين زوجته أرسلها لناشره، فقد اعتمد هذا الأسلوب من دون معرفة الزوجة لتفريغها واستخدامها في مشروعه الروائي الذي عاد إليه بعد الانتقال إلى فرنسا. حتى يتساءل المشاهد هل كان حقاً يختلق المشاكل ويعيد إحياء الاتهامات لتحفيز عنصر الكتابة لديه؟ هل يعني ذلك أنه كان يقوم بالتلاعب بزوجته ومشاعرها؟.

قام بدور الزوج سوان أرلادو، ورغم قلة ظهوره في الفيلم فقد نال جائزة سيزار عن دوره. أما الطفل الذي برع في أداء الدور ميلو ماشادو جرينر ، فكان ذكياً وحساساً وموضوعياً، فحين تسلل الشك إليه بوالدته تصرف بحكمة الواعي، وصارح القاضية والفتاة التي عينتها المحكمة لحمايته ولمنع تأثير والدته عليه.

كان هجوم وكيل النيابة صارخاً على المتهمة، ومن خلاله نرى المناخ العام وقسوة المحيط ونظرته الجندرية للمرأة، وعدم قدرته على تفهم طريقة الزوجة بالحياة، فهي لم تتراجع عن مساحتها الخاصة ولا عن سعيها للاستمرار بحياتها العامة وإنجازها الأدبي وترجماتها، لتساير إحساس الفشل عند زوجها، بل ومن خلال الحوارات نجد أنها كانت دوماً تدفعه للبدء وتجاوز أزماته العابرة والعمل من جديد.

كانت الكاتبة تحاول الفصل بين حياتها الشخصية والمهنية والموازنة بين أعبائها الأسرية وأعباء العمل، في الوقت الذي ينتظرون منها التضحية بحياتها المهنية للعناية بطفلها الذي أصيب بضعف شديد بالبصر، وهذا ما نسمعه بصوت الزوج الذي يقوم بالتهكم على ردها في أحد التسجيلات أنها قد خصصت يوما لمساعدة ابنها في واجباته، ونلمس من خلال رأي وكيل النيابة تلك الفجوة التي يركز عليها، وهي تقديم حياتها المهنية على الأسرية، متناسياً أنها تقوم بذلك بالإسهام بالأعباء المادية، مع عدم  استيعاب نجاحها مقابل فشل الزوج،  الذي قد يكون سبباً لانتحاره، ولهذا يتم الإصرار بإلقاء تهمة القتل  على الزوجة من قبل وكيل النيابة، والشخص الذي سرب التسجيلات الصوتية للمحكمة . 

 بدت الزوجة هادئة متزنة، وبدت معالم وجهها متحفظة، وهذا ما جعل الشك لدى المشاهد قائماً، رغم أن هذا التحفظ والتماسك يمكن تفسيره، بمحاولتها الحفاظ على مكانتها الاجتماعية والأدبية. 

تقول لابنها إن والده كان توأم روحها، وإن علاقتهما كانت رفاقية، لكن هذا في النهاية لا يخفي حجم البرود الذي ظهر بينهما، ولعل تلك العزلة في البيت الريفي وحوله الثلج من كل الجهات هو التصوير الحقيقي لحقيقة العلاقة بينهما.

مدة الفيلم ساعتان ونصف، حافظ خلالها على شد المشاهد والتأثير القوي حتى وصلت إيراداته إلى 30 مليونا و720 ألف دولار منذ طرح الفيلم إلى صالات السينما، وقد حصل على جائزة أفضل سيناريو في الأوسكار، وعلى السعفة الذهبية في مهرجان كان. 

كما فازت المخرجة جوستين تربيت عن الفيلم بالسعفة الذهبية، وهي ثالث امرأة تفوز بها.