ما هو إنسانُ ما بعد السايبر؟
محمَّد حسين الرفاعي
باجتماع شروط إمكان المعرفة، التي تحددها المفاهيم: مفهوم العالميَّة، ومفهوم المجتمعيَّة، ومفهوم الإنسانية، ومفهوم الأخلاقية، والتي تساءلنا عنها، في تحديد مهمة الفكر العربيّ، ونمط التعامل مع موضوعاته، نكون أمام أسس بديهية تنطلق منها أي ممارسة فكرية ملتزمة بالتجديد، وبالمجتمع والإنسان، نحو علاقة جديدة مع العالم.
تُؤخَذُ هذه الأسس في كل الأحايين بمثابة ركائز الفكر، وممارسات التفكير العربيّ الجديد. وإنْ أُخِذَت على أنها في موضع النقاش والجدل، لا ينتج ذلك إلاّ فوضى معرفية تُضاف إلى الفوضى المعرفيَّة في عقول الشباب اليوم. وهي، أي الركائز هذه، على أقل تقدير، الآتية:
الركيزة الفكريَّة الأولى: القطع الإبستيمولوجي Epistemological Rupture، أي القطع المعرفيّ من جهة أرضيَّة الموضوعيَّة Objectivity، ومعناها ومضامينها، وكيفيَّة تعيينها في كلِّ مرة في الممارسة الفكريَّة، اِنطلاقًا من "حقل- الفهم" الخاصّ بها، الواضح بين معرفة المثقفين ومعرفة المتخصِّصين. الأولى فردانية تقوم على مواقف ذاتيَّة وتتوقف عندها، سواءً كانت أفقية أو عمودية، كانت عضوية أو جالسة في الأبراج العاجية، والثَّانية مجتمعيَّة تلتزم بشروط المؤسسة العِلميَّة، وترتبط عمليات بنائها بقواعد وضوابط وحدود المؤسسة. بمعنى مباشر هي ترتبط بمأسَّسَةِ ثُلاثيَّة "التَّساؤل العلميّ- والتفكير الآكاديمي- والفهم الفلسفي". إنَّ فعلاً معرفيَّاً مُمَأسَسًا يفتح الإمكان لأنْ يُصبحَ فعلاً علميَّاً بعدَ حينٍ؛ أي بعد الولوج إلى حقل الكشف عن الطرق إلى الحقيقة العِلميَّة ما بعد الحديثة؛ وهي الإمكان العلميّ على نحو آكاديمي؛ أي فتح الإمكانات الموضوعيَّة التي تبني، في كلِّ مرة، فرضيات فاهِمَة دالة مفسرِّة، ولكن قابلة للدحض، أو لا تكون.
الركيزة الفكريَّة الثَّانية: تقتضي الممارسة الفكريَّة تكوينًا علميَّاً وآكاديميَّاً صارمًا، ومتخصِّصًا في موضوع من موضوعات المعرفة العِلميَّة والفلسفية الحديثة وما بعد الحديثة. تخلط الغالبية الساحقة من القراء والمثقفين بين فعل القراءة على أنَّه هواية أو رغبة عند الفرد، وفعل القراءة المحدَّد على نحو علمي. الأولى هواية، الثَّانية لا تقوم من دون تساؤل ضابط للقراءة. فكما أن البحث العلميّ لا يكون إلاَّ بواسطة لغة المفاهيم، فإنَّ القراءة الأكاديمية أيضًا لا تكون إلاَّ على نحو قراءة المفاهيم العِلميَّة.
الركيزة الفكريَّة الثَّالثة: لا ثَمَّةَ ممارسة فكرية محليَّة. الممارسة الفكريَّة عالَميَّة أو لا تكون. هل هذا يعني القطع مع التُّراث العربيّ والديني؟ وهل هو يعني مناهضة الدِّين والتدين؟ وهل هو يعني الحكم على هذه المجتمعات بالتخلف والرجعية والاِنغلاق؟ لا؛ هذه الأحكام والنعوت لا تعبر إلاَّ عن منطلقات أيديولوجية مغلقة في التعامل مع العالَميَّة. ولا تأخذ إلاَّ اِتجاهًا أو مدرسة بعينها، تطلق هذا النوع من الشعارات، وتصدر أحكامًا معيارية من هذا النوع؛ ولا تخصُّ إلاَّ نفسها. ما أشير إليه هو الممارسة الفكريَّة بوصفها مساهمةً في بناء وإعادة بناء المفهوم العلميّ على نحو عالميّ. وهذا يتطلَّب توقُّفًا عند مستوى مؤسسة العلم.
الركيزة الفكريَّة الرَّابعة: لا ثَمَّةَ ممارسة فكرية فردانية؛ الممارسة الفكريَّة مؤسسية أو لا تكون. إمَّا على نحو الأكاديميا، أو على ما تقوله الاِتجاهات والمدارس العِلميَّة الحديثة وما بعد الحديثة. ولكن ما هي المؤسسة التي من شأن المعرفة العِلميَّة الحديثة، على نحو أصليّ وموضوعاني؟ لم يعد الوجود، في المعنى المؤسَّسي، محصورٌ بين حدود الوجود الآكاديمي الواقعيّ؛ أي الدراسة الأكاديمية التي تبدأ من المرحلة الأولى الأكاديمية، إلى المرحلة الرَّابعة "أو الثَّالثة في الأنظمة الأكاديمية المكثفة"، وصولاً إلى مرحلة الماستر "الماجستير"؛ بل أصبح وجودًا في المؤسسة الجديدة، أي مؤسسة السايبر اِنطلاقًا من الأكاديميا. إنَّ الإنسان الأكاديمي في العالَم Homo-Academicus لم يعد موجودًا في الوجود في العالم، من حيثُ إنَّه واعٍ بذاته، مفتوحٌ على الإمكانات الموضوعيَّة Objectivity فحسب؛ بل هو أصبح كائنًا واعٍ بنمطين من أنماط الوجود، إلى الآن على أقل تقدير: النمط الأول هو الوجود في الأكاديميا في معنى الواقع الواقعيّ، والثاني هو الوجود في السايبر على نحو أكاديمي. أشير ههنا إلى جملة القواعد والقوانين وضروب التقنين والوظائف والأدوار، التي تعيِّنُها المؤسسة الأكاديمية في كل مرَّةٍ، في السَّبيل إلى تحديد الإنوجاد في العالَم؛ الإنوجاد وقد صار فعلاً أكاديميَّاً واعيًا بأنماط وحدود التفكير، وإنتاج الفكر. هكذا، لا يمكن أن نتصور وجود ممارسة علميَّة أو فكرية لا تتأسَّسُ على الاِنطلاق من حقل فهم بعينه، ترسمه الاِتجاهات والمدارس والتوجهات الفلسفيَّة والعلمية. ولكن، ما الذي يحول دون ذلك؟ ويتبدَّى على أنَّه فوضى معرفية لا معنى لها، ولا مضمون؟ ولماذا تستهتر العقول، عقول الشباب بالفكر والمعرفة العِلميَّة؟
تنتج القراءات العشوائية، والتي تُحدَّدُ على نحو الرغبة أو الهواية، عند الشباب، من جهة أولى، كما تقِّومُ ضروب الخلط المعرفيّ بين المعرفة العِلميَّة المتخصصة والمعرفة العادية اليوميَّة، في وسائل التواصل المجتمعيّ، عَبرَ السايبر، من جهة ثانية، كما تُحدِّد أيديولوجيات الفردانية، التي أصبحت، في كل حقول الوجود المجتمعيَّة في العالَم، تتجسَّدُ على نحو تبشيري، من جهة ثالثة، حالةً من الفوضى المعرفيَّة التي تتسم، على أقل تقدير، بالآتي:
-1 وهم المعرفة العِلميَّة، واِنتحال موقع معرفي، من قِبَلِ فرد لم توضع قراءاته، عَبرَ معايير آكاديمية عالَميَّة، في خط اِنتظام بنيوي لتكوينه، وبنية المنطق العلميّ لديه. يُطلق عليه في الغالب تسمية المثقف.
-2 الاِستهتار في التعامل مع المعرفة العِلميَّة من قِبَلِ فرد فرداني بعينه، مأخوذًا كنتيجةٍ ونتاجٍ لنماذج الوعي العالَميَّة الداعية والمبشِّرة بالفوضوية "الأناركية"، بوعي أو من دون وعيه. يأخذ هذا الاِستهتار المعرفيّ ثلاثة أشكال تظهر على نحو مشوَّه: المعرفة العادية اليوميَّة في مواجهة المعرفة العِلميَّة، والمعرفة الأيديولوجية المغلقة في مواجهة اِنفتاح العالَم، والمعرفة المُستعجلة في مواجهة المعرفة الرصينة التي أخذت وقتها في التكوين، والتذوُّت على محاضرات الأساتذة والعلماء والفلاسفة، والتخصُّص في "حقل- الفهم" الخاصّ بالعلم الحديث.
-3 السهولة في إصدار الأحكام، وإطلاق النعوت على المفكرين والفلاسفة والعلماء، ونتاجهم المعرفيّ. فتارةً تجد هاويًّا يصنف مفكرًا على أنَّه عظيم، وتارةً أخرى فيلسوف آخر على أنَّه تافه، أو سطحي. وينتج ذلك نمطًا من أنماط التعامل مع المعرفة العِلميَّة والفلسفية فكاهيَّاً وساخرًا إلى حدِّ الفكاهة والسخرية بالوجود ذاته. ومن أجل أن لا ثَمَّةَ مؤسسة علم، فإنَّ الفوضى المعرفيَّة ههنا تحل محل روح الحداثة والأنوار؛ وتنتزع لنفسها مكانة عليا. وإذا تساءلنا: أي ضرب من ضروب إنتاج المعرفة يُصدر حكمًا ههنا؟ نكون أمام إجابات صبيانية، هي في أفضل الأحوال، مأزومةٌ عدمية. فما هو الحل وكيف يكون؟ يكون ذلك عَبرَ إعادة فهم الفلسفة، والتفلسف، باِعتبارهما أصبحا موضة فكرية جديدة. لكن كيف نمتحن تساؤل الفلسفة والتفلسف من جديد، في كلِّ مرة؟
إنَّ تساؤل الفلسفة ليس تساؤلاً خارج الزمان والمكان؛ إنَّ زمان الفلسفة، ومكانها، إنَّما هو زمان حبِّ هذا الإنسان التاريخي الذي يوجد على نحو العالَميَّة، ومكان حبِّهِ بوصفه هذا الموطن، أو ذاك. إنَّ حب الحكمة، من جهة أن الإنسان موضوعها، إنَّما هي حب العلم بالحقيقة بوصفها الموضوع الأصليّ الذي ينشغل به الإنسان، ويرعاه، ويهتم به في حياته، كلِّ حياته. إنَّ التفلسف مأخوذًا، مأخذَ الجدِّ والحب، إنَّما هو فعلٌ بنائيٌّ لأنْ يكون الإنسان كما هو في جملة إمكاناته؛ أعني وحدة إمكانات الإنسان الموضوعيَّة التي تُقدِّمُ في كل مرَّةٍ دربًا جديدًا نحو أن يكون. لذا، حينما نمتحن التَّساؤل: ما هو الإنسان الحديث، ما بعد السايبر، في الزمان والمكان، نكون أمام علم الحقيقة متجسِّدةً في المجتمع والتاريخ. إنَّ التاريخ مجتمعيٌّ بقدر ما المجتمع تاريخيٌّ، أو لا يكونان. وفي هذا السَّبيل، لا يمكن التَّساؤل عن الفكر والأسس الإنسانيَّة فيه إلاَّ بالاِنطلاق على الدوام من الأكاديميا الحديثة، بوصفه أقصى إمكان العبقرية الإنسانيَّة وقد تجسَّدت في هيئة مؤسسة مجتمعيَّة وإنسانية؛ تحدُّها مبادئ العالَميَّة.