الكتاب الإلكتروني ثقافة تحطم الحدود والخرائط

ثقافة 2024/06/09
...

  هويدا محمد مصطفى

أحدث الغزو الكبير الذي حققته {الميديا} والتقنيات الحديثة خللاً بنيوياً في الذائقة وفن الاستقبال لدى القارئ على مستوى العالم مما زلزل معه فكرةَ ومزاجَ التلقي عموماً.

والكتاب الإلكتروني بوصفه تمظهراً جلياً وواضحاً من تمظهرات التقنيات الحديثة صار منافساً شرساً للكتاب الورقي في الاستحواذ على اهتمام القارئ على نحو عام، مما شكل انعطافة خطيرة في استقبال نوعية الكتب وتقاليد القراءة وطقوسها التي اعتاد عليها الإنسان لقرون عديدة.

اليوم نفتح هذا الباب على فضاء قلق وعاصف من الأفكار لنبين من خلال استبانة سريعة عينتها عدد من الأدباء المعاصرين مدى انحسار تأثير الكتاب الورقي وانهزامه أمام الكتاب الإلكتروني بعد أن صار الأول صعب المنال، أمام موجة الغلاء التي يعيشها الإنسان العربي خصوصاً، وجشع دور النشر وتجاهلها كل ما تمر به المنطقة من أزمات وكوارث.


ثورة كبيرة

ومع التقدم العلمي والتقني والثورة الهائلة في وسائل الاتصال الحديثة،  يرى الأديب منذر عيسى أن من الطبيعي جداً أن يمسّ هذا التقدم الحقل الفكري والثقافي، فظهر ما يعرف بالكتاب الإلكتروني كرديف للكتب الورقية التي طالها ارتفاع الأسعار، وارتفاع كلفة الطباعة، وكذلك صعوبة النقل من مكان الطباعة وتوزيعها، وارتفاع التكلفة أيضاً. 

ويقول عيسى: كان الكتاب الالكتروني الحل المناسب لإيصال الكتاب والأفكار والإبداعات إلى أنحاء العالم كله، وبأيسر السبل، كما يمكن تحميل عدد هائل من الكتب والمؤلفات في أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة، وبالتالي العودة إليها وبيسر وسهولة.

ويتابع موضحا، أن "هناك كتب تمنع الرقابة نشرها في بعض البلدان ويحرم المثقف من الاطلاع عليها، فكان الكتاب الالكتروني تحدياً للرقابة ومحطماً للحدود".

وعلى وفق ما يرى عيسى فإن الكتاب الإلكتروني هو ثورة كبيرة في عالم الفكر والثقافة والمعلومات، وقد وضع منجزات العقل البشري وإبداعاته بمتناول الجميع، وليس اقتصارا على النخبة والمهتمين وبشكل ميسر.

ويضيف: في ظل الضائقة الاقتصادية والحصار الذي يعاني منه بلدنا بعد الحرب الظالمة عليه لجأت الكثير من المؤسسات الرسمية إلى اعتماد النشر الإلكتروني، وبصراحة مطلقة عانينا في البداية من غياب الصحف والمجلات الورقية، وكذلك قلة الكتب والمؤلفات المطبوعة، ولكن بالتدريج بدأ التأقلم مع الحالة الجديدة.

يبقى للكتاب المطبوع، كما يتابع عيسى، هيبته وجمالية حضوره في المكتبات، ورائحة الطبيعة والأشجار التي كانت والخضرة التي تحمل رمزيتها مع عناصر الطبيعة المتكاملة، وكــــــــــذلك القيمـة التاريخية للكتب المطبوعة وارتباطها بمناسبة اقتنائها، وبالحنين إليها تثور موجات من ذكريات شفيفة تعيدنا إلى الماضي، ويشتعل التوق إلى زمنها واسترجاع ذكرياته .

ويشير عيسى إلى أنها سنة الكون والحياة والتطور التقني الهائل الذي يَسّر الكثير من سبل الحياة، ومنها وسائل الاتصال التي حولت العالم إلى قرية صغيرة كما هو متداول، وأدخلتنا في حالة الكوكبة أو العولمة.

مع ذلك هناك اليوم العالمي للكتاب الذي أقرته اليونيسكو في 23 من شهر نيسان في كل عام ويحتفل به عالمياً مؤكدين بذلك أهمية الكتاب الكبرى، ورمزية هذا الكتاب كمصدر للمعرفة وخلاصة للفكر البشري.


نشر الإبداع الأدبي

من جهتها تقول الأديبة فخر هواش: لعلها تكون أحد أهم الجوانب التي طالتها تأثيرات الثورة المعلوماتية وهددت وجودها  "الكتاب الورقي" فقد عملت على تغيير المفهوم السائد له، واستبداله بالكتابٍ الالكتروني مع إضافة مجموعة من المميزات الإضافية له حتى يتم ربطها بشكلٍ موثوقٍ أكثر مع واقعنا.

وتتابع هواش: إذا كنا لا نغفل عن ضرورة التكنولوجيا وأهميتها ودورها الجاد في النهوض العلمي على جميع الأصعدة، إلا أن تأثيرها على واقع الكتاب الورقي في حياتنا أصبح مضراً بعض الشيء، حيث بدأت الكتب الورقية تختفي لتحلَّ محلها الكُتُب الإلكترونية، والتي برأيي أنها فاقدةٌ لأي روحٍ طبيعيةٍ إلا روحها الإلكترونية، وبأن الكتابين متناقضين من حيث الميزة والسلبية.. مثلا: انعدام مشكلة الحجم بالنسبة للالكتروني، وامتلاك التقنيات التي تسمح بالتحكم به مثل الخط والوضوح، أما الورقي فهو محكوم بخط طباعته بالإضافة إلى المدى المفتوح للبحث والتقصي في العالم الالكتروني وصعوبة الحصول على المصادر المتنوعة في الورقي نسبيا.

وتوضح هواش: بما أنّ عصر الرقمنة بات مهيمناً بشكل كبير على الساحة الأدبية والعلمية، ووسيلة انتشار في نقل المعرفة من خلال الشبكات العنكبوتيّة والإلكترونية، فقد لجأ الكثير من الكُتاب والناشرين إلى النشر الإلكتروني، كطريق سريع للشهرة وتحقيق الربح، في ظل استخدام الكثير من منصات التواصل الاجتماعي المختلفة لترويج ونشر الإبداع الأدبي. فهذا واقع لابد من تقبله والتعايش معه.

وتضيف هواش أنّ "الكتاب الورقي مازال يحتفظ بقيمته ومكانته الأصيلة، في الحفاظ على الهوية وتوثيق النتاج الإبداعي بمختلف أنواعه في العصر الحديث، ليس اعتمادا على العلاقة الراسخة بين المبدع والكتاب، وصمود المكتبات الورقية، بسبب تعبير الكتاب عن الهوية الثقافية أمام احتمالية الأعطال الإلكترونية التي ربما تفصل الإنسان عن التواصل مع العالم الافتراضي فحسب، بل لأن هذه العلاقة متأصلة وراسخة في لاوعيه وذاكرته وحالته الشعورية وهذا ما يدركه القارئ الذي اختبر هذا التناغم ما بين رائحة الورق والصوت الذي يحدثه طي الصفحات مع الاسترسال في عوالم شيقة في حالة من الشغف للمطالعة والبحث والتقصي ما لا يمكن اختباره مع الافتراضي بالإضافة إلى القيمة الحقيقية والرمزية التي يحملها  الكتاب الورقي وحضوره الواقعي الذي لا يمكن إلغاؤه رغم هذا المد الالكتروني".


الانفجار المعرفي

أما الشاعر د.ابراهيم الحمد فيرى أنه لابد من أن نعترف بأن التقنية هي التي تتسيد المشهد المعاصر على الصعد كافة، ومسح ارتجالي سريع يوشك أن يجعلنا نجزم بذلك إذا ما أحصينا بعض ما حولنا من مظاهر "السوشيال ميديا" والقنوات الفضائية وقنوات "اليوتيوب" وغيرها الكثير، خصوصا بعد الانفجار المعرفي والسيلان الكتابي الذي صار يحرف الذائقة مثلما يجرف الفكر نحو الهاوية السحيقة، إذ أخذت القيم بالانحدار المخيف وسادت المحتويات الهابطة بشكل جنوني، ولابد لكل ذلك من داعم أو جهة تدفع به إلى الأمام المظلم.

ويقول الحمد: ربما كانت مقدمتي متشائمة إلى حد ما، ولكني أريد أن أخرج منها بقناعة شخصية ربما أو أحاول أن أنير بعضا من ظلمات الحياة أو أشير إليها محبة في الحياة وإنسانية البشر.

ويوضح الحمد: قد يكون الكتاب الإلكتروني أحد المظاهر  التي لها حدّان، حد يجعل الحياة منفتحة أكثر ويمنح الجميع حق الوصول إلى المعلومة بأسهل الطرق، أما الحد الثاني فهو الضياع  المتمثل بالتشتيت الحاصل لأفكارنا وفقدان ذلك المزاج العاطفي الذي يشدنا نحو الكتاب الورقي بنكهة رائحة الورق وملمسه الذي يمنحنا دفئا خاصا وتوقا إلى المعرفة وإحساسا بالجمال خصوصا لمن أدمنوا الكتاب الورقي.

ويشير إلى أن الأجيال السالفة كانت تصل الكتاب الورقي وتتداوله بسهولة أكثر مما هي عليه الآن، كونه طريق المعرفة والثقافة الوحيد آنذاك وانهماك دور النشر بنوعية الكتاب وطباعته والعناية بإخراجه للقارئ في أجمل حلة وبأكثر عدد من النسخ، أما الآن فغلاء أسعار الطباعة جعلت المؤلف قبل القارئ يتهيب تلك الدور ويحسب لها ألف حساب وبالمقابل هناك من ذوي المواهب الفقيرة والضحلة ممن يمتلكون المال يطبعون كتبهم المتصحرة التي لا تنفع بقدر ما تضر الذائقة في دور نشر مهمة وبأسعار عالية وتوزع في المعارض فدور النشر لم يعد يهمها سوى المال وتخلت عن النوع وأنا لا ألومها هنا لأن الحياة سارت باتجاه مادي والكتب المهمة لم تعد مقصد طيف واسع من القراء الذين يبحثون عن الوجبات السريعة.

ويقول الحمد إن: المستقبل مخيف جدا لكل هذه الأسباب التي ذكرتها، ولكن لا أنكر أن للكتاب الإلكتروني فضلا أيضا على الباحثين والأكاديميين الجدد لما يوفره من تسهيل لهم في الوصول إلى ضآلتهم.. وأنا شخصيا حينما يتعذر علي أن أجد كتابا أحتاجه ألجأ إلى النت فأجد في ضالّتي وكم من الكتب قرأتها على جهاز "اللابتوب" فأغنتني عن البحث عن الكتاب الورقي لكن بالمقابل أفقدني ذلك متعة القراءة المتجسدة في الكتاب الورقي.


حماية البيئة

في المقابل، يقول الأديب محمود البقلوطي إن "الكتب الإلكترونية تلعب دوراً بارزاً وهاماً في حياتنا، إذ أنها تسهل للمتلقي أن يتحصل ويطلع عليها بسهولة من دون إضاعة الوقت من خلال البحث عنها في المكتبات ويمكن خزناً في الكومبيوتر فنربح المساحات، لأن الكتب الورقية يتطلب خزنها غرفاً ومكتبات".

ويتابع: إضافة إلى ذلك تمكننا من حماية البيئة من خلال الكف عن قطع الأشجار لتوفير المادة الأساسية لصنع الورق، ويمكن لنا أيضاً تحويل الكلمات في الكتب الرقمية إلى قراءة صوتية تخوله للمكفوفين إلى الاستماع والإطلاع عن مضامينها، ولا يفوتني أن نذكر الربح الاقتصادي الذي يتوفر من قيمة الورق وإشغال الطباعة التي كانت ضرورية لإنتاج الكتاب الورقي. 

ويمكن أن نشير أيضاً إلى عملية الترجمة والانفتاح على الآخر ومعرفة تاريخ حضارات عدة.

وعلى الرغم أن الكتاب الورقي له طعم خاص ونحسب بعلاقة حميمية معه، ما يرى البقلوطي، لكن منطق التطور في عصرنا سائر في اتجاه إعطاء الأولوية للكتاب الإلكترونية على حساب الكتاب الورقي.

ويتأسف الأديب زهير حسن وهو يقول إن "غالبية شركات النشر والتوزيع الإلكتروني لا يهمها سوی جني الأرباح من بيع وتسويق إنتاجها وتعمل علی تكريس هيمنة الكتاب الرقمي المطلقة - رغم أذيته- علی الكتاب الورقي لما فيها من تقنيات تمّدها للقرّاء بأسهل الطرق، علماً أنها بدأت باستغلال سهولة استخدامها لتثری من رفع  أسعارها".

ويضيف حسن: في مجتمعنا العربي رغم أنّ التكلفة المادية متقاربة بين الكتاب الورقي والكتاب الرقمي نری زخماً غير مريحٍ نحو تسويق إعلامي حثيث للكتاب الرقمي رغم تسبُّبِه بأضرار بالغة للقارئ لدماغه وعينيه من جراء إشعاعات شاشات الحواسيب التي تؤدّي إلی صداع وتشوّش في الرؤية.

ويشير إلى أن استطلاعات كثيرة تحدّثت عن أهمّية الكتاب الورقي الذي نسميه الصديق الأنيس في أغلب السهرات، فهو علی عكس الكتاب الرقمي الذي يسبب الأرق والإرهاق، إذ يساعد علی الاسترخاء ولا يعكس أي نوع من الإشعاعات المؤذية للأعصاب التي تذخر بها شاشات الألواح الرقمية، ولنعد قليلاً بذاكرتنا الفردية والجمعية إلی المكتبات في كل أنحاء العالم كم هي جميلة في ترتيبها وتبويبها، فكل مكتبة تبدو وكأنها لوحة تاريخية لأهم وأعظم الفنانين بألوانها وتشكيلها الجميل الذي يعشقه المثقفون الأوفياء للكتاب الورقي.

ويری أنه مهما تقدمت تقنيات الكتاب الرقمي سيبقی الكتاب الورقي ثقافة متوارَثة عبر التاريخ "رغم سيطرة عصر السرعة" حيث أنه انطبع في ذاكرة الأجيال بلطفه وأُنسه ومسامرته وكأنَّ القارئ والكتاب عاشقان.


فضاءات القراءة الشاعريّة

من جهته يقول الكاتب والناقد رضوان هلال فلاحة، إن "الكتاب الإكتروني أحد نتائج الثورة الرقمية، له ما له من الإيجابيات التي نختزلها بسهولة الحصول على المعلومة، وتحصيل الكم الأكبر من المراجع الثقافية والمعرفية بأقل الأكلاف". 

ويتابع فلاحة: لعلنا حين نتحدث عن المفاضلة بين الكتابين الإلكتروني والورقي، لا ننطلق من طقوس الكتابة الرومانسية إلى فضاءات القراءة الشاعرية؛ إلا أننا نمعن التفكير أكثر في أدوات وعناصر التعاطي الحسِّي مع الشيء وما يكرسه من عوامل البناء على القيمة المتوخاة منه، والتي تأتي على الغالب الأعم بنتائج رديئة في حال غيابه، وتؤسس للكسل المعرفي البحثي. 

ويعتقد فلاحة أنه ومع طغيان الاستهلاك السلعي، حل الكتاب الإلكتروني عوضاً عن الورقي، وهو مكمن الخطورة مع غياب الرقابة والتأصيل والمنهج العلمي والثقافي والمعرفي عبر فوضى المحتويات الرقمية في الشابكة الإلكترونية.